
بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف
واحدة من التفاصيل التي تلفت انتباهي خلال متابعة مباريات الكرة الأوروبية التي تنقل على قنوات BeIn Sport القطرية، ان كثير من المعلقين العرب، يستعينون عادة بإفيهات ومقاطع من أغنيات أو جمل حواري من أفلام، وكلها مصرية وكلها قديمة، تعكس (قوة مصر) التي فرطنا فيها.
فقبل سنوات لم يجد المعلق الإماراتي الشهير علي سعيد الكعبي كلمات يعبر بها عن مشاعر محبي الكرة الجميلة في آخر مباراة لعبها رسام برشلونة انييستا، قبل إعلان اعتزاله، سوى كلمات اغنية كارم محمود (أمانة يا ليل طول وهات العمر من الأول)، وهي اغنية ربما لا يتذكرها الكثيرون الذين تربوا على أغاني الميكروباص.
وفي صيف الماضي، وأمام الإبداع الاستثنائي للاعب اسبانيا المراهق لامين يامال في بطولة أوروبا للمنتخبات، لم يجد المعلق الجزائري المعروف حفيظ دراجي كلمات يعبر بها عن انبهاره بمستوى اللاعب سوى مطلع أغنية فريد الأطرش الشهيرة مع تعديل بسيط فراح يغني (لامين جمال مالوش مثال ولا في الخيال).
أما (عصام الشوال) محبوب المصريين، فلا تكاد تمر مباراة يعلق عليها دون أن يستعين بإفيهات وأغاني وتعبيرات مصرية توضح (قوة مصر)، فمرة يسخر من فريق اعتاد الهزيمة فيستخدم افيه عادل امام في مسرحية شاهد ما شافش حاجة (متعووودة دااايما)، بخلاف عشرات الافيهات الأخرى التي تكشف انه كان من مدمني الدراما والفن المصري في نشأته.

(قوة مصر) الناعمة
هذا الاقتباس يعكس حجم تأثير (قوة مصر) الناعمة في الشعوب العربية، سواء الفن أو الغناء والإعلام، ففي وقت سابق كان اغلب اصحاب الصحف الخليجية وقياداتها يبحثون اولا عن الصحفيين المصريين، حين يرغبون في إحداث طفرة مهنية في صحفهم او قنواتهم، حين كانت مهنة الصحافة لا تزال بخيرها في مصر.
وكانت الدولة واعية بمصادر قوتها الناعمة، وحريصين على دعمها انطلاقا من أن مكانتنا كدولة رائدة في المنطقة مرتبطة بقدرة (قوة مصر) الناعمة في السيطرة على عقول الاشقاء والجيران، ومن هنا كان دخول الدولة في عصور سابقة في الإنتاج الدرامي والفني بقوة.
لم يكن الهدف فقط في ذلك الوقت أن تظل مصر هى الرافد الأساسي للدراما بالنسبة للمشاهدين العرب، ولكن كان من بين الأهداف تعزيز الصورة النمطية التي تنقلها تلك الدراما عن المجتمع المصري الذي تمثله الطبقة المتوسطة.
وحصدت مصر ثمار ذلك الدعم وهذا الوجه في ربط شعوب الدول الشقيقة والصديقة بمصر وثقافتها وأدبائها وفنانيها واعلامييها، وسادت اللهجة المصرية على ألسنة الشعوب لدرجة انها كانت اللهجة الوسيطة بين شعوب المشرق والمغرب العربي، حين يعجزون عن فهم بعضهم البعض بلهجاتهم المحلية.
لكن بدا منذ عقود كأن مصر قد تخلت عن قوتها الناعمة، وفرطت في واحدة من أهم مصادر ريادتها في المنطقة، ربما كانت البداية في عصر السادات، حين تم اختزال الفن المصري في ثقافة شارع الهرم، وسينما المقاولات، وقد أساء الاثنان لمصر والمصريين بدرجات تفوق كثيرا أي فائدة تحققت منهما.
ورغم الازدهار النسبي الذي تحقق للفن المصري في عصر مبارك نتيجة إفساح المجال امام المبدعين، وظهور أعمال بقيمة (البرئ، واللعب مع الكبار، وليالي الحلمية، وحلم الجنوبي)، وعشرات الأعمال الأخرى التي عكست ما يمتلكه المصري من إبداع.. إلا أن بعض الجهات سرعان ما ضاقت بتلك المساحة.
وفي السنوات الأخيرة تابعنا ما يمكن اعتباره التأميم الثاني لـ (قوة مصر) الناعمة، فلم يعد الفن فنا ولا الغناء غناء ولا الإعلام إعلاما، وإنما تحولوا الى نماذج مشوهة منفرة تحمل نفس الأسماء، لكنها بعيدة في مضمونها كل البعد عما اعتاد العرب أن تقدمه لهم مصر.


أم كلثوم وعبد الحليم
وبدلا من (أم كلثوم وعبد الحليم ومحمد فوزي ومحمد حسنين هيكل ابراهيم سعدة وموسى صبري و أنيس منصور)، بدأت مصر تقدم نخبتها الفنية والإعلامية الجديدة، التي لا تفتقد فقط للكاريزما والحضور، ولا تفتقد أيضا للموهبة، وإنما يفتقد معظم أفراد النخبة الجديدة الى الكرامة والكبرياء الشخصيين، وإدراك قيمة أن تكون مصريا.
الأدهى من ذلك أن تضييق مساحات العمل وحصر الأدوار في الفن والإعلام على خريجي مدرسة (الطاعة العمياء) أدى الى هروب البعض إلى الخارج ليضعوا إمكاناتهم ومواهبهم في خدمة من يدفع أكثر ويوفر لهم الفرصة للعمل والتعبير عن أنفسهم، حتى لو كان المقابل هو تورط بعضهم في الإساءة لمصر وشعبها.
ورغم مطالبة الرئيس للمعنيين بتهيئة المناخ لاستعادة هيبة الدراما ثم الإعلام المصريين، فإن الخطوات التي اتخذت لاحقا لم تكن مبشرة، سواء لأنها اعتمدت على نفس الأسماء التي ساهمت في إيصال الحال الى ما وصل اليه من هوان.
أو لأن هؤلاء المعنيين لم يسعوا إلى إصلاح حقيقي بقدر ما رغبوا في القيام بتحركات صورية لاعطاء انطباع بأنهم ينفذون تعليمات الرئيس بينما الحقيقة أنهم لا يريدون أو يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة نحو الإصلاح الحقيقي.