رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: (التشخيص) أم التصنيع؟

محمود عطية يكتب: (التشخيص) أم التصنيع؟
لقد بات الإعلام العربي في أغلبه منبراً لتصدير التفاهة والسطحية وترويج نماذج مشوهة

بقلم المستشار: محمود عطية *

ننظر إلى واقع الدول العربية اليوم فنكاد لا نصدق أن هذه الرقعة من الأرض كانت ذات يوم مهداً للحضارات ومنارة للعلم ومركزاً للبحث والفكر والابتكار في شتى المجالات، فاليوم يندثر كل ذلك أمام سيل من التفاهة والغرق في (التشخيص) والملذات واللهث وراء كل ما لا ينفع بل قد يضر ويهدم.

إن هذه الأمة التي كانت يوماً تقود العالم في الطب والفلك والكيمياء والهندسة والعمارة والزراعة وصناعة التسليح والتقنيات الحربية أصبحت اليوم شبه عاطلة عن كل إنتاج حقيقي ومساهمتها في التقدم البشري تقترب من الصفر، إلا من بعض الاستثناءات الفردية أو المحاولات المحتشمة التي لا ترقى إلى ما تملكه هذه الدول من إمكانات وثروات.

فليس الفقر هو السبب ولا قلة الموارد ولا الجهل الشعبي التلقائي، وإنما هو اختيار واضح وصريح من الأنظمة الحاكمة التي قررت أن تنفق مئات المليارات على حفلات الرقص والغناء التافه والسهرات التي لا ينتج عنها إلا مزيد من البلادة الفكرية والتسطيح الثقافي.

في الوقت الذي يئن فيه التعليم من الإهمال ويموت البحث العلمي سريرياً وتعاني الجامعات من التخلف والبيروقراطية والجمود، وتُحاصر العقول الحقيقية وتحارب الكفاءات حتى يهاجر ما تبقى من العقول إلى الغرب في مشهد لا يمكن تفسيره إلا بأن هناك رغبة صريحة في قتل كل ما هو منتج وبناء عن طريق (التشخيص).

لقد بات الإعلام العربي في أغلبه منبراً لتصدير التفاهة والسطحية وترويج نماذج مشوهة من الشخصيات التي لا تقدم للناس إلا الضياع، فبدلاً من تسليط الضوء على العلماء والمفكرين والمخترعين تحول الإعلام إلى منصات لتلميع الراقصات والممثلين والمغنيين والفاشينيستات واليوتيوبرز التافهين، ممن لا يملكون أي محتوى حقيقي سوى اللعب بعقول الجماهير وإلهائهم عن قضاياهم المصيرية.

محمود عطية يكتب: (التشخيص) أم التصنيع؟
من المؤسف أن هذه الظاهرة ليست هامشية أو عرضية بل أصبحت سياسة رسمية وتوجهاً عاماً

كتل هشة مهووسة بالمظاهر

ومن المؤسف أن هذه الظاهرة ليست هامشية أو عرضية بل أصبحت سياسة رسمية وتوجهاً عاماً، وكأن هناك قراراً متعمداً بتحويل المجتمعات إلى كتل هشة مهووسة بالمظاهر لا تفكر في غير الاستهلاك والتقليد والتفاخر بالأزياء والسيارات والرحلات والمهرجانات الفنية التي باتت تُعامل، كأنها أهم من المؤتمرات العلمية والمعارض الصناعية وأيام الابتكار

وفي مصر تُقام المهرجانات التي أصبحت ملتقى لأهل (التشخيص) الذين يفدون إليها ببطون ممتلئة ووجوه مدهونة وأزياء مستوردة لا لشيء سوى استعراض التفاهة والتظاهر بالفن والثقافة، وهم في الحقيقة يعيشون في عالم منفصل عن واقع الناس الحقيقي فينزلون في أفخم الفنادق ويتنقلون في سيارات فارهة، ويأكلون ويشربون وينالون الهدايا والمكرمات وكأنهم أصحاب فضل على الوطن.

بينما لم يقدم أغلبهم لمصر سوى أعمال تافهة ودراما فارغة وسينما بلا مضمون، فباعوا رسالتهم إن كانت لهم رسالة، وباعوا قيمهم من أجل الدولار والشهرة والظهور فماذا أفادوا مصر غير أنهم ساهموا في تزييف الوعي وتقديم الرداءة على أنها إبداع والسطحية على أنها ثقافة والميوعة على أنها انفتاح، وهل ترتقي الأمم بمثل هؤلاء أم تسقط وتسير نحو الهاوية تحت أضواء كاميراتهم وعدساتهم الباهتة

والأدهى أن هذا الانحدار لم يتوقف عند حدود الإعلام أو الفن بل تسلل إلى بنية المجتمع كله حتى أصبح الناس يتعاملون مع العلم والتعليم على أنه عبء، ومع المعرفة على أنها ترف ومع الإنتاج على أنه مرهق لا طائل منه في حين يُمجد الكسل وتُرفع مكانة من لا يعمل ولا ينتج شيئاً سوى الضجيج وتصدير الأوهام.

وبينما تتسابق دول العالم على الريادة في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والصناعات الحيوية وتطوير الزراعة الذكية والتقنيات الدفاعية نجد الدول العربية تتسابق على تنظيم الحفلات واستيراد المغنيين وتقديم أرقام قياسية في عدد المهرجانات وأطول طاولة إفطار وأكبر فستان زفاف وأكثر عدد من عروض الألعاب النارية.

وكأن التقدم يُقاس بعدد نجمات الإنستغرام أو ميزانيات المسلسلات الرديئة أو ساعات البث لبرامج النميمة والجدل العقيم

ولا يمكن الحديث عن هذه المهزلة من غير الإشارة إلى ما يتعرض له الدين من تشويه منظم على أيدي إعلاميين، وأصحاب أجندات واضحة يسعون بكل جرأة إلى التشكيك في الثوابت، وفتح أبواب العبث بكل ما له علاقة بالقيم والمقدسات بل إن بعضهم لم يتورع عن توجيه السخرية والطعن في مؤسسات علمية عريقة.

مثل الأزهر الشريف الذي يمثل واحدة من آخر الحصون الباقية للوسطية والتوازن والاجتهاد الأصيل في فهم الدين، وللأسف فإن الهجوم عليه لا يأتي من جهات خارجية فقط بل من الداخل عبر تمويل وترويج لأصوات مشوهة تقدم نفسها على أنها تنويرية، وهى في حقيقتها أصوات هدم وتخريب لا تملك من أدوات الفكر شيئاً سوى الجرأة والصفاقة والإصرار على تشويه كل ما هو راسخ ومؤثر.

محمود عطية يكتب: (التشخيص) أم التصنيع؟
أصبحت وسائل الإعلام ساحة مفتوحة لكل من يريد أن يشتم الدين أو يسخر من العلماء

بيئة إعلامية خالية من الرؤية

وفي مصر على وجه الخصوص نجد هذا المشهد في أوضح صوره إذ أصبحت وسائل الإعلام ساحة مفتوحة لكل من يريد أن يشتم الدين أو يسخر من العلماء أو بـ (التشخيص) ويلمز الأزهر ويتهمه بالتخلف والتشدد، في حين لا يُفتح الباب للنقاش العلمي الحقيقي ولا يُقدم البديل الذي يمكن البناء عليه.

بل يُترك المشهد فارغاً لتتكرر نفس الوجوه التي لا تعرف إلا الجدل والصراخ والتشكيك في كل شيء حتى أصبحنا نعيش في بيئة إعلامية خالية من الرؤية والثقافة والمسؤولية، وتحولت الساحة إلى ما يشبه السيرك حيث كل شيء مباح مادام يجلب المشاهدات ويحقق التفاعل.

وفي ظل هذا العبث العام يتآكل وعي الناس وتفقد الأمة بوصلتها وتغيب أولوياتها الحقيقية فلا حديث عن الأمن الغذائي ولا عن الاكتفاء الصناعي ولا عن الابتكار ولا عن تحصين الثقافة، بل كل ما يملأ الفضاء هو أخبار الطلاق والزواج والخلافات بين المغنيين والممثلين وأرقام المشاهدات في يوتيوب وتيك توك,

وكل هذا يجري بينما الجيوش العربية تعتمد كلياً على استيراد سلاحها من الخارج وتفتقر إلى أي بنية صناعية حقيقية تعتمد عليها وقت الأزمات والجامعات تتراجع في التصنيفات العالمية والشباب يهرب من التخصصات العلمية لأنها مرهقة، ولا تجد الدعم ولا التقدير ولا حتى فرصة للعمل بعد التخرج بينما تفتح الأبواب أمام التفاهة بكل أريحية وتُمنح الجوائز والتكريمات لمجرد الرقص أو التمثيل أو إثارة الجدل.

هل أمة بهذا الشكل يمكن أن تنهض هل يمكن لمن قرر أن يسلم وعيه بالكامل لنجوم الفن التافه ومقدمي برامج التسطيح أن ينافس العالم في الذكاء الاصطناعي، أو استكشاف الفضاء أو الأمن السيبراني أو الصناعة الحيوية هل يمكن لأمة ترى أن الفنون الهابطة أولى من العلوم الجادة وأن اللهو مقدم على الإنتاج أن تبني نهضة حقيقية

إن العالم لا ينتظر الكسالى ولا يحترم الغافلين وإن الأمم التي لا تستثمر في عقول أبنائها ولا تقدر العلماء ولا تحمي مؤسساتها الفكرية والدينية من العبث ستدفع الثمن غالياً، والأخطر من كل ذلك أن هذه الشعوب تستهلك ما ينتجه الآخرون وتدفع الأموال الطائلة لاستيراد ما تنتجه عقول غيرها بينما لا تنتج شيئاً يذكر سوى الضجيج والفوضى والتفاخر بما لا يُفتخر به

وفي النهاية فإن المشكلة ليست في الشعوب وحدها بل في النخب التي خانت دورها وفي الأنظمة التي اختارت أن تُخدر الشعوب بالمتعة الزائفة والتفاهة الممنهجة بدلاً من أن توقظها بالعلم وتدفعها إلى العمل، وتبني لديها الطموح وتحميها من السقوط الأخلاقي والفكري فالنهضة ليست شعاراً يُرفع بل مشروع يُبنى بالعلم والعمل والوعي وليس بالغناء والصراخ والتمثيل الفارغ والتشكيك في الثوابت

* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.