رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(عبده الإسكندراني).. الذي أحب الفقراء ومات منسيًا في سجن الغرام

(عبده الإسكندراني).. الذي أحب الفقراء ومات منسيًا في سجن الغرام
(عبده الإسكندراني) غيّر القاعدة ؛ جعل الموال كنبض الشارع، سريعًا، متدفقًا، متلاحقًا مثل أنفاس العاشق

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

(عبده الإسكندراني)، عميد الموال الشعبي، واحد من الذين أخلصوا للفن بصدقٍ حتى آخر نَفَس، وغنّى للحياة وللفقراء وللحب، ثم رحل كما عاش، بسيطًا، صادقًا، حزينًا، لكن خالدًا في وجدان من عرفوه وسمعوه.

اسمه الحقيقي (عبد الستار محمد حسنين)، مولود في الإسكندرية لأب من سوهاج، لكنه عاش أغلب عمره في القاهرة، تلك المدينة التي احتضنته مثل أمٍّ حنونة تارة، وقاسية تارة أخرى.

كانت القاهرة بالنسبة لعبده الاسكندراني المسرح الكبير، والمقهى الصغير، والفرح الشعبي، والمنصة التي تغنّى فيها للحياة بكل ما فيها من لذعة وحلاوة.

(عبده الإسكندراني)، لم يكن مجرد مطرب شعبي؛ كان حكيمًا شعبيًا بصوت مغنٍ.. صوته يشبه صدى القلب حين يتكلم وحده، حين يهمس بالحكمة ويئنّ من الشوق؛ في زمنٍ امتلأت فيه الأغنية الشعبية بالصخب والرقص، خرج (عبده الإسكندراني) من بين الناس، يحمل وجعهم وكرامتهم في صوتٍ واحدٍ يقطر صدقًا.

 لم يكن يغنّي ليُطرب، بل ليُعبّر، ليُذكّر الناس بأن الفنّ من الناس وإليهم.. هو الذي نُسب إليه الفضل في تسريع إيقاع الموال، تلك الخطوة التي كانت أشبه بثورة فنية.

كان الموال الشعبي بطبيعته بطيئًا، يمنح المغنّي مساحة للتطريب والزخرفة، لكن (عبده الإسكندراني) غيّر القاعدة ؛ جعل الموال كنبض الشارع، سريعًا، متدفقًا، متلاحقًا مثل أنفاس العاشق.

 الإيقاع عنده لم يكن مجرد زمن موسيقي، بل حياة كاملة، تختلط فيها عُرَب صوته القوية بزخارف الأكورديون والناي، فتولد حالة من السحر تجمع بين العقل والقلب.

ولأنه كان صوت الناس البسطاء، أحبوه بعمق.

كان يجلس في الأفراح الشعبية لا متكبّرًا ولا متعاليًا، يشارك غيره من المطربين الشباب، يساندهم ويشجعهم.

(عبده الإسكندراني).. الذي أحب الفقراء ومات منسيًا في سجن الغرام
كان (عبده الإسكندراني) يقول دائمًا: (اللي بيحب الغُنا بيساعد مش بيزاحم)

موال واقعيٍ صادقٍ

أسماء كثيرة من أبناء التسعينات لا تنسى كيف كان عبده الإسكندراني يقف في الصف الخلفي ينتظرهم حتى ينتهوا من وصلاتهم الغنائية، ثم يعتلي المسرح بابتسامةٍ كبيرة، يبدأ بموال واقعيٍ صادقٍ، وكأنه يحاور جمهوره عن وجعهم اليومي. من هؤلاء الذين ساندهم وحيد العمدة، أشرف غزال، أشرف المصري، وضياء.

 كان (عبده الإسكندراني) يقول دائمًا: (اللي بيحب الغُنا بيساعد مش بيزاحم).. ووسط هذا الحب، كان الموال هو لغته الأولى.

في مواله الشهير (زمن الصبا) يفتح (عبده الإسكندراني) قلبه للزمن، يعترف بصدقٍ موجعٍ بأنه لم يعد كما كان.

يقول:

الحلو من معدنه رح تفهم معدنه من قوله ..

زمان الصبا ولى وراح

وراح زمان الدلع واللعب ولى وراح ..

أنا بقيت في عهد الكهولة..

أنا يوم ما جيه غنيت وقولت مرحب زماني وبهجة الأرواح ..

ما دريت الشعر أهو أبيض من بعد السواد..

ما دريت أدي السنان اتخلعت ..

عيني حتى ما دريت القوس مني انحنى فعلاً وظهر الشيب..

الحمد لله .. الحمد لله آدي حسن الختام.

هذا الموال ليس مجرد غناء، إنه تأمل عميق في مرور العمر.

(عبده الإسكندراني) لم يتهرّب من شيخوخته، بل واجهها بشجاعة، بضحكةٍ حزينةٍ ووعيٍ جميل.. كل كلمة في الموال تنبض بتجربته الشخصية، بصدق الإنسان الذي مرّ على الحلو والمر، وعاد ليقول: “الحمد لله آدي حسن الختام.

وفي ذات الموال، يعترف بندمه على ما فرّط فيه:

أنا كنت في أكبر نعمة ما عملتش حساب للشيب ..

ومكسبي راح يا ناس .. وبايدي اليمين أنا بمزاجي فرطت ..

الكدب عقبه ندم .. وأنا اللي خدمت العويل ما دريت!

تلك الجملة الأخيرة وحدها تكشف معدن (عبده الإسكندراني) الحقيقي: رجل يعترف بأخطائه دون خجل، يواجه نفسه قبل أن يواجه الدنيا.

كان يقول في إحدى مقابلاته القديمة: (اللي يغني للناس لازم يغني من جواه، مش من فمه).. وهذا ما فعله دائمًا؛ غنّى من جواه.

أما مواله الآخر، (سجان الغرام) فهو درة من درر الموال الشعبي المصري.. حكاية كاملة تختصر رحلة العشق والندم والعقاب، بلغة بسيطة وصادقة، لا تُثقلها البلاغة ولا تُفسدها الزخرفة.

 يقول فيه:

يالي انتا قاضي وعدلك ماضي في الأحكام

حكم الزمان مر وانا صابر علي الأحكام

أنا طيش الشباب خد عقلي ونداني

خلفت شور الكبير ساعت مانجاني

وطوعت مشي الشيطان ضللني وسهاني..

(عبده الإسكندراني).. الذي أحب الفقراء ومات منسيًا في سجن الغرام
هذه البداية وحدها تكفي لتضعنا أمام بطلٍ مكسورٍ يعترف بذنبه، لا يبحث عن تبرير، بل عن مغفرة

بطلٍ مكسورٍ يعترف بذنبه

هذه البداية وحدها تكفي لتضعنا أمام بطلٍ مكسورٍ يعترف بذنبه، لا يبحث عن تبرير، بل عن مغفرة.

في هذا الموال يواجه عبده نفسه كأنه أمام محكمة روحية.. يعترف بأنه خان وصية أبيه، وضيع شبابه في لهوٍ لا طائل منه، ثم ندم حين لم ينفع الندم.

وهنا يظهر حسّه الإنساني العالي؛ فهو لا يغني عن الغرام بمعناه العاطفي الضيق، بل عن غرام الحياة، غرام الشهوة، غرام الدنيا التي تسجننا بشهواتها ثم تتركنا وحدنا.

ثم تأتي أبياته الأشهر التي تهز القلب من صدقها:

ودخلت سجن الغرام والجاني سجاني

سجان بلا قلب خد من عمري مداني

ورماني في السجن لم زرني حد ولا جاني

أنا قولت يا سجان الغرام ترميني وتنساني..

في هذه اللحظة، يصبح الغرام رمزا للحياة نفسها، سجنًا كبيرًا نُحب سجّانه رغم قسوته.. وهنا تتجلى عبقرية عبده الإسكندراني، حين يجعل من الموال درسًا في الفلسفة الإنسانية.

هو لا يصرخ فقط، بل يُعلّمك أن الحب، مثل النار، يدفئك ويحرقك في الوقت ذاته.

(عبده الإسكندراني) لم يكن يعرف الاستعراض ولا الإدعاء.. كان يغني بصدقٍ يخترقك، بصوتٍ يحمل حرارة الإسكندرية، وهدوء البحر في المساء، وغربة الصعيدي الذي ترك سوهاج ليعيش في القاهرة.

(عبده الإسكندراني).. الذي أحب الفقراء ومات منسيًا في سجن الغرام
كان يحمل ملامح الناس الذين بلا أقنعة.. حتى حين اشتعل الشيب في لحيته

ملامح الناس الذين بلا أقنعة

كان يحمل ملامح الناس الذين بلا أقنعة.. حتى حين اشتعل الشيب في لحيته، ظل يراها تاجًا من رضى الله عليه، فقال في مواله: (اللحية بارت وزينها الإله بالشيب).

وما أجملها من جملة، تلخّص رحلة العمر كلها في كلمات قليلة.

لقد صنع (عبده الإسكندراني) لنفسه مدرسة فريدة في عالم الموال.

 لم يكن تلميذًا لأحد، لكنه أنجب تلاميذ كُثرا.

 كل من جاء بعده في عالم الموال تأثر به بشكل أو بآخر، سواء في الأداء أو في اختيار الكلمة أو في الإيقاع السريع الذي صار سمة لكثير من المواويل الحديثة.. بل إن كثيرًا من المواويل الافتتاحية للأغاني الشعبية التي نسمعها اليوم ما هي إلا أجزاء مقتبسة من مواويل عبده القديمة.

يكفي أن نذكر أن موال (عصفور ضعيف الجناح) الشهير لم يكن سوى جزء صغير من موال عبده الكبير (سجان الغرام)، الذي غنّاه بصوته ووجعه حتى صار من علامات الغناء الشعبي الخالدة.

كان (عبده الإسكندراني) قريبًا من كل من التقاه.. في المقاهي الشعبية، على الأرصفة، في الأفراح الصغيرة، كان يغني للناس لا ليكسب تصفيقهم، بل ليواسيهم.. كان يقول دائمًا: (الناس الغلابة محتاجة كلمة طيبة قبل اللقمة، وأنا بغني علشان الكلمة دي),

(عبده الإسكندراني) لم يمت حين توقفت أنفاسه، بل حين نسيه الإعلام.. لكنه ظل حيًا في قلوب الناس الذين أحبوه، في الحواري التي ما زالت تردد مواويله، وفي كل مطرب شاب يتعلم منه أن الموال مش غُنا وبس، لكنه وجدان، واعتراف، ورسالة.

رحل (عبده الإسكندراني) تاركًا وراءه إرثًا لا يُقدّر بثمن.. إرثًا من الصدق والشجن، من الحكمة الممزوجة بالموسيقى، ومن الحب النقي الذي لم يُدنّسه الادعاء.. كان في حياته بسيطًا، بلا بهرجة ولا شهرة طاغية، لكنه حين غنى، ارتقى إلى مستوى الكبار الذين يخلّدهم الفن لا التاريخ.

ولعل أجمل ما يُقال عنه، أنه كان (حكيم الغلابة)، رجلًا عاش للفن ومات من أجل الناس.. تركنا وترك وراءه درسًا خالدًا: أن الفنان الحقيقي لا يُقاس بما حازه من مالٍ أو شهرة، بل بما تركه في القلوب من أثر.

(عبده الإسكندراني) كان أثرًا، وسيبقى أثرًا.. هو الذي أحب الفقراء ومات منسيًا في سجن الغرام، لكنه في الحقيقة ما زال حرًّا، ما دامت مواويله تملأ الدنيا صدقًا وحكمةً وجمالًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.