
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
لم يكن مجرد وجه عابر في شاشة سينما أبيض وأسود، ولا مجرد ضحكة تقفز من الراديو في زمن كان فيه (ساعة لقلبك) طقسًا من طقوس المساء، بل كان كائنًا من الكوميديا الصافية، عبقًا من البهجة التي لا تشيخ.. كان اسمه الحقيقي (فؤاد راتب)، لكن أحدًا لم يناده به، لأن الناس عرفوه باسم واحد صار جزءًا من ذاكرتهم: (الخواجة بيجو).
الرجل الذي لعب بالبيضة والحجر، قلب المعادلة، وجعل من شخصية (الخواجة بيجو) الأجنبي مرآة لروح مصرية ساخرة تسكنها البساطة والذكاء وخفة الظل.
كنت طفلًا حين شاهدته لأول مرة، على شاشة باهتة في بيتنا القديم، لا أفقه من الحكاية الكثير، لكنني كنت أضحك من أعماقي حين يقول بصوته الغريب: (يا لخوتي يا النافوخ بتاع الأنا يا نور النبي!).. كنت أضحك لأنني شعرت أن هذا الرجل لا يمثل، بل يعيش الدور، حتى خُيِّل إليّ أننا أمام خواجة حقيقي نزل من طائرة في مطار القاهرة ودخل بيوتنا ليصنع لنا الفرح.

ابن الزقازيق الذي سكن جوار العندليب
وُلد (فؤاد راتب) في الأول من مايو عام 1930 بمدينة الزقازيق في الشرقية، المدينة التي أنجبت كثيرًا من المبدعين. انتقل إلى القاهرة ليسكن في المبنى ذاته الذي كان يسكن فيه المطرب الكبير عبد الحليم حافظ، وكأن القدر أراد أن يجمع بين صوتٍ يطرب القلوب، وضحكةٍ تُنعش الأرواح.
تخرج في كلية التجارة عام 1949، وانخرط في عالم الوظائف الرسمية، متنقلًا في الدرجات حتى صار مديرًا للعلاقات العامة باتحاد الصناعات.
لم يكن الكوميديان في داخله قد استيقظ بعد، لكنه كان هناك، يتشكل في صمت خلف أرقام الإحصاءات وخطط العلاقات العامة، بينما كان قلبه مع الميكروفون والكاميرا.
نال درجات علمية في التخطيط والإحصاء، وعمل في الهيئة الإفريقية الآسيوية، ثم سافر إلى الكويت عام 1968 بطلب من شركة الأسمدة ليؤسس قسم العلاقات العامة هناك.
وفي عام 1972، التحق بالتلفزيون الكويتي حيث صار عضوًا في لجانه ومستشارًا في اجتماعاته.. لكن رغم كل هذا المسار الرسمي، كانت هناك رغبة واحدة لا تهدأ: أن يجعل الناس يضحكون.
بدأت رحلته الفنية طفلًا في السابعة حين احتضنه الإذاعي حسين فياض، ثم فتح له الباب الكبير بابا شارو، حتى جاء عام 1952 ليغير حياته بالكامل.
كان ذلك في البرنامج الإذاعي الأشهر (ساعة لقلبك)، هناك خرج إلى النور (الخواجة بيجو) الرجل الذي يتحدث بعربية مكسّرة، ويخلط بين اللغات، ويتصرف بسذاجة طفل في جسد رجل.

شخصية لا تشبه أحدًا قبله ولا بعده
لم يكن الدور مجرد تمثيل، بل كان حالة كاملة.
لقد صنع شخصية لا تشبه أحدًا قبله ولا بعده.
أجنبيٌّ مزيّف في ملامحه، مصريٌّ أصيل في روحه، يخطئ في الكلمات لكنه يصيب في القلوب.
حتى صار الناس ينادونه في الشارع بـ (الخواجة بيجو)، وكأنهم نسوا أن له اسمًا آخر.
وشكّل مع صديقه الفنان محمد أحمد المصري (أبو لمعة) ثنائيًّا من أكثر ما أنجبت الإذاعة سحرًا، كانا كالماء والنار، أحدهما يبالغ والآخر يصحّح، أحدهما يسخر والآخر ينفجر بالضحك.
وفي زمن كان يزخر بالعمالقة – فؤاد المهندس، عبد المنعم مدبولي، محمد عوض، أمين الهنيدي – استطاع بيجو أن يحجز لنفسه مكانًا لا يُزاح.

إفيهات محفورة في الذاكرة
ليست الكوميديا فقط في المواقف، بل في الكلمة.. و(الخواجة بيجو) كان سيد الكلمة المضحكة.
حين كان يقول: (يا لخوتي!) كنا نشعر أن المصيبة قادمة، وحين يصرخ (يا النافوخ بتاع الأنا!) كنا نضحك قبل أن نفهم ما يقصد، وحين يتغزّل بـ (يا نور النبي!)، كان في صوته صدق الطفولة وسحر البساطة.
لقد بنى مجده الفني على هذه العبارات التي التصقت به كما يلتصق اللقب بالأسطورة، فصارت جزءًا من الوجدان الشعبي.

من الميكروفون إلى الشاشة
لم يقف (الخواجة بيجو) عند حدود الإذاعة.. دخل السينما وترك بصمات لا تُنسى في أفلامٍ كثيرة، منها:
* إسماعيل يس في مستشفى المجانين
* عروسة المولد
* ملك البترول
* غرام المليونير
* عروس النيل
* شارع الحب
* حماتي ملاك
* الأزواج والصيف
كما شارك في مسلسلات شهيرة مثل درب الزلق والشاطر حسن، ووقف على خشبة المسرح في حضرة صاحب العمارة.. لم يكن بطلًا أول، لكنه كان الحضور الذي لا ينسى. الممثل الذي يسرق الكاميرا كلما مرّ أمامها ولو في مشهد واحد.

الضحكة التي تحدّت الشلل
عام 1975، وأثناء عمله في الكويت، أصيب (الخواجة بيجو) بجلطة تسببت في الشلل النصفي.. كان يمكن أن تكون تلك النهاية، لكن الرجل الذي اعتاد أن يصنع الفرح لم يرضَ أن يغيب. ظل يعمل في إعداد البرامج للتلفزيون الكويتي، يقدّم ما يستطيع أن يقدّمه من خلف الكواليس.
وفي عام 1978 عاد إلى مصر، وقد أنهكه المرض لكنه لم يفقد شيئًا من روحه المرحة أو ابتسامته التي تسكنها الطفولة.

لعب بالبيضا والحجر
لم يكن (الخواجة بيجو) مجرد ممثل كوميدي، بل كان أشبه بالساحر.
لعب بعقولنا كما يلعب الطفل بالبيضة والحجر.
جعلنا نصدّق أن هذا الرجل خواجة فعلاً، وأن لغته المكسّرة طبيعته الحقيقية، وأن تصرفاته الغريبة هي جزء من تكوينه.
وفي العمق، كان يقدم نقدًا اجتماعيًا ساخرًا.. في كل كلمة يقولها، كانت هناك إشارات ذكية إلى سلوكنا اليومي، إلى عاداتنا التي تحتاج إلى مرآة ضاحكة تعرّيها دون أن تجرحها.

وداع الضحكة الأصيلة
في 18 يونيو 1986، توقفت الضحكة.. رحل ( الخواجة بيجو) في هدوء كما عاش، تاركًا وراءه إرثًا من السعادة التي لا تُقدّر بثمن.. لم يكن ثريًا، لم يكن نجم الشباك الأول، لكنه كان نجمًا في القلوب، وأثره في الكوميديا العربية أكبر بكثير من حجم أدواره.
لقد علمنا (الخواجة بيجو) أن الفن لا يُقاس بعدد البطولات ولا بحجم الأجور، بل بقدرة الممثل على أن يصير جزءًا من ذاكرة الناس.. ومن ذاكرة جيلٍ كامل، لم يُمحَ هذا الرجل.. ما زلنا نضحك حين نسمع (يا لخوتي)، وما زلنا نراه بعين الطفل الذي صدّق أنه خواجة فعلاً.

إرث لا يصدأ
(الخواجة بيجو) لم يكن مجرد كوميديان، بل مدرسة في فن التقمص.. لم يقدم شخصية الخواجة كما يقدمها غيره: سطحية أو مصطنعة أو مبالغًا فيها، بل جعلها لحمًا ودمًا.. وبهذا الصدق، دخل إلى أعماقنا بلا استئذان.
واليوم، ونحن نشاهد أعماله القديمة على اليوتيوب، لا نضحك فقط، بل نحزن قليلًا، لأن زمنًا كان فيه الضحك بريئًا، والسخرية راقية، والفن رسالة قبل أن يكون صناعة، قد مضى.
لكن الفن العظيم لا يموت، و(الخواجة بيجو) واحد من هؤلاء الذين تحدّوا النسيان. ظل حاضرًا، ليس في أرشيف السينما وحده، بل في حكاياتنا العائلية، في الجلسات التي نعيد فيها ذكر “ساعة لقلبك”، وفي كل مرة يقلد فيها أحدنا صوته ويقول: (يا النافوخ بتاع الأنا!).
لقد لعب بالبيضا والحجر فعلًا، لكنه لم يكن ساحرًا، كان ممثلًا موهوبًا يملك ما هو أثمن من السحر: القدرة على إسعاد الناس. ومن يستطيع أن يسعد الناس، ولو لدقيقة، فقد امتلك الخلود.
وها نحن، بعد عقود من رحيله، ما زلنا نضحك كلما ظهر على الشاشة. ذلك وحده يكفي ليقال عنه إنه لم يمت أبدًا.
(الخواجة بيجو).. ذلك الرجل الذي جعل الضحك جزءًا من حياتنا، والذي ما زال، بصوته المكسّر وضحكته البريئة، يعيش بيننا حتى الآن.