
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
استطاع (محمد جلال عبد القوي)، بعد التحاقه بمعهد الفنون المسرحية، لفت الأنظار ككاتب دراما، رغم ذلك أصر على الالتحاق بقسم التمثيل.
كان (سناء شافع) معيدًا في المعهد، يناقش طالبه (محمد جلال عبد القوي) حول مسرح شكسبير. تمسك جلال برأيه أن تعمد شكسبير في مسرحيته (عطيل) أن يكون البطل أسود البشرة، هو نوع من العنصرية ضد العرب، لينفعل عليه سناء شافع في نهاية المناقشة صائحًا: (أنت حمار)؟
فيسارع (محمد جلال عبد القوي) بالرد دون تردد: (أنا لسه جحش، لما أبقى في سن حضرتك هبقى حمار).. رغم غضب (سناء) من الرد، إلا أنه لم يستطع مقاومة الاشتراك في معظم المسلسلات التي كتبها جلال فيما بعد، ومنها: (على باب مصر، حضرة المتهم أبى، حارة الشفا).
ولا يمكن نسيان دوره في مسلسل (أولاد آدم) في شخصية (عز)، الذي أصابه خلل عقلي إثر تدهور حالة الأسرة المادية بعد ثورة يوليو والتأميم الذي طال ثراء أسرته.

عاش بطلاً لمسلسل (أديب) قبل أن يكتبه
تخرج (محمد جلال عبد القوي) عام 1978، ولتفوقه تم تعيينه معيدًا بالمعهد، في الوقت الذي سعى فيه إلى التلفزيون من خلال أداءه لدور صغير في مسلسل (غريب الحي).
لم يتحمل فكرة وأد حلمه كممثل داخل قاعات المعهد والحرم الجامعي، سواء على المستوى الإبداعي أو المادي، فقد كان مرتب المعهد لا يكفي لتحقيق وعده لابنة عمه (نجاة) التي تركها في القرية بالعودة في أسرع وقت وإتمام الزواج.
خاصة أنه خلال هذه الفترة تعرف في المعهد على أستاذة فرنسية زائرة، وقعت في حبه وعرضت عليه الزواج والسفر معها إلى باريس لاستكمال مستقبله الأكاديمي هناك.
لكنه لم يستطع ترك حبه نجاة، ولا كسر كبرياء الأستاذة الفرنسية، فادعى أنه مستغرق الآن في كتابة سهرة تلفزيونية عن فتى شاب مرتبط بابنة عمه، وقدم إلى المدينة للدراسة، فقابل فيها فنانة شهيرة أحبته، لكنه ما زال محتارًا في الموقف الذي سيتخذه البطل.
فهمت الأستاذة الفرنسية تلميحاته، فانتظرت فترة، ثم سألته: (هل وضعت نهاية للسهرة التلفزيونية؟)، فأجاب: (نعم، سيتمسك البطل بابنة عمه ويبتعد تمامًا عن الفتاة)، فرحلت الفرنسية في اليوم التالي عائدة إلى باريس.
اختزن (محمد جلال عبد القوي) مشاعر هذه التجربة ليصبها فيما بعد في السيناريو الذي وضعه لرواية طه حسين (أديب)، حيث الأديب الدميم الشكل يتقدم في القرية لفتاة أحبها، لكنها فضلت أن تحرق نفسها عن الزواج به، لكن الفتاة حميدة التي كانت تحبه وتكتم حبها تزوجت به.
وعندما تم إرساله في بعثة إلى باريس، كان من شروطها أن يتزوج من فرنسية، فتزوجها وطلق (حميدة)، لكن عقدة الذنب لم تفارقه طوال الأحداث.
كان حب (محمد جلال عبد القوي) لابنة عمه (نجاة) يفوق حبه لكل البشر، وقد بادلته حبًا بحب، حتى أنها أصرت على تسمية طفلهما الأول محمد، فأصر أن يسمى طفلتهما الأولى (نجاة)، كما أطلق بعد ذلك على أهم بطلاته اللاتي يمثلن دور الحبيبة اسم (نجاة)

عبد القوي يرفض طاعة ملك الفيديو
كان المخرج (أحمد خضر) هو كلمة السر في تحول حلم (محمد جلال عبد القوي) من التمثيل إلى تأليف الدراما، فلم يكف منذ صداقتهما في المعهد عن حثه باستمرار على التأليف.
استجاب (محمد جلال عبد القوي) لإلحاح صديقه تزامنًا مع فكرة مسلسل (الغربة) التي جاءته، فعكف على كتابة حلقاته كاملة، وعلى الغلاف سجل اسمه كمؤلف وإخراج أحمد خضر.
قدم (محمد جلال عبد القوي) المسلسل لنور الدمرداش بصفته أولًا المراقب العام للتمثيليات في هذا الوقت، وثانيًا لأنه أستاذه في المعهد وهو صاحب لقب (ملك الفيديو) في هذا الوقت.
فأعجب بالمسلسل وقرر كنوع من المساندة أن يخرجه بنفسه، إلا أن عبد القوي رفض أن يخرجه أي شخص آخر غير أحمد خضر، فعد الدمرداش هذا الرفض إهانة له، ليقوم عبد القوي بمغادرة المكتب غاضبًا، متخذًا قراره بنسيان مجال كتابة الدراما إلى الأبد، والعودة إلى التمثيل.
بينما (محمد جلال عبد القوي) يسير في إحدى ممرات التلفزيون، لاحقه أحد الموظفين يخبره أن الأستاذة (سميحة جبريل)، مديرة الرقابة، تبحث عنه منذ شهور.

(الغربة) في شباس الملح
صعد (محمد جلال عبد القوي) إلى مكتبها في الدور العاشر، فعرفها بنفسه لتخبره أنها بعد رحيل الدمرداش وتنصيبها مكانه، عثرت في الأدراج على سيناريو مسلسل (الغربة)، وقد اعتمدته للتنفيذ وأسندت إخراجه إلى المخرج (حمادة عبد الوهاب)، نائب رئيس التلفزيون.
ليبدأ بالفعل عرض أولى حلقاته في سبتمبر 1980، وقد انجذب عموم الشارع المصري إلى أحداث المسلسل وأجواءه في الصعيد، حيث (زناتي) عمدة القرية المتجبر على أهل القرية الفقراء الجهلة، وقد طمع أيضًا في الزواج من (حميدة) فرفضته، ليلفق لحبيبها قضية دخل السجن على أثرها، لتنتشر الجملة التي كان يرددها عبيد القرية: (هراس جاي).
قام (محمد جلال عبد القوي) في المسلسل بدور شيخ الخفراء همام، ولإعجاب المخرج بأداء (عبد القوي) التمثيلي فقد أسند إليه في المسلسل التالي (المعدية)، بالإضافة إلى التأليف، دور (سعد)، ليصبح الدور الأخير له في حياته حيث تفرغ بعدها تمامًا لكتابة الدراما.
رغم أنه في هذا المسلسل لفت الأنظار لإتقانه اللغة الصعيدية لدرجة أن الفنان (محمود مرسي) قال له: (لقد قدمت دور الصعيدي في الغربة أفضل مما قدمته أنا في شيء من الخوف)، وكشف (محمد جلال عبد القوي) أن سر إتقانه للهجة الصعيدية أنه كان يختزنها من مفردات زميله في الجيش (ميشيل) ومن باعة الذرة المشوية في رمسيس حيث قضى إلى جوارهم أوقاتًا طويلة.
لم يكتف (محمد جلال عبد القوي) في مسلسل (الغربة) بالتأليف والتمثيل، وإنما أيضًا بوضع كلمات تترات البداية والنهاية، وقد كتب الأشعار أيضًا في مسلسل (أديب) بالإضافة إلى التأليف، لكنه حينما قرأ تترات البداية والنهاية التي كتبها (سيد حجاب)، توقف عن كتابة التترات وأسندها إليه، فكتب تترات معظم مسلسلاته مثل: (أولاد آدم، المال والبنون) وغيرهما.
عند عرض مسلسل (الغربة)، كان المصريون جميعًا يتابعون حلقاته بشغف، خاصة أهل قريته (شباس الملح مركز دسوق) الفخورين باسمه، يملأ الشاشة مع بداية كل حلقة، حيث كان بالقرية تلفزيون واحد في الجمعية الزراعية، يتحلقون تحته، يتابعون الصراع المرير بين الخير والشر، فينتصر الخير في النهاية مع توغل الشر تمامًا، كما زرع فيه أبوه هذا المبدأ منذ صغره وتربيته التربية الدينية العميقة.
حتى أن أهل القرية، لحماستهم، كانوا يحملون الأب في كل حلقة على أعناقهم ليصلوا به إلى تلفزيون القرية في الجمعية، وقد انهمرت الدموع من عينيه مدركًا أن ابنه كان على صواب في انتقاله إلى القاهرة عن غير رغبته، واطمأن تمامًا على مستقبل ابنه، فاكتفى من الدنيا بنجاحه.
حتى إنه أبلغ ذات صباح بائع الجرائد الذي كان يأتيه يوميًا منذ عشرات السنوات بالجرائد ألا يأتي في اليوم التالي، لأن هذا العدد سيكون الأخير الذي سيقرأه.. وفي الصباح مات الوالد.