رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد الروبي يكتب: (صنع الله إبراهيم).. المتلصص الذي هزم الموت

محمد الروبي يكتب: (صنع الله إبراهيم).. المتلصص الذي هزم الموت
مرّ (صنع الله إبراهيم) بتجارب شكلت روحه الأدبية
محمد الروبي يكتب: (صنع الله إبراهيم).. المتلصص الذي هزم الموت
محمد الروبي

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي

رغم علمي أنه كان مريضًا منذ فترة، وأنه قد بلغ الثامنة والثمانين.إلا أن الخبر هزني هزاً  عنيفا.. رحل (صنع الله إبراهيم)!

شريط طويل من الأعمال والمواقف مر أمامي مصحوباً بالدموع  في خلفيته يتردد مقطعاً من جدارية  محمود درويش:

(هزمتك يا موتُ الفنون جميعُها

هزمتك وانتصرت

وأفلت من كمائنك الخلودُ

فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد).

فجأة تذكرت أن (صنع الله إبراهيم) لم يكن مجرد كاتب، بل كان راصدًا حيًا للتاريخ،  فقد كان بالنسبة لي، وللكثيرين، أكثر من كاتب؛ كان صوت المدينة، الذي يتردد عبره أصوات الحواري والأسواق.

 منذ ولادته في القاهرة عام 1937، مرّ (صنع الله إبراهيم) بتجارب شكلت روحه الأدبية: الحقوق، السياسة، السجن، صاغت قناعاته بأن الرواية أداة لمساءلة الواقع، وأن التفاصيل اليومية للناس هي التي تكشف حقيقة المجتمع.

 في سجنه، تعلم أن الكلمات يمكن أن تكون سلاحًا وصوتًا، وأن الرواية يمكن أن توثق الحياة اليومية كما توثق السياسة والسلطة.

محمد الروبي يكتب: (صنع الله إبراهيم).. المتلصص الذي هزم الموت
استعدت (ذات) الموظفة المصرية العادية التي تحولت إلى مرآة لمجتمع كامل

مرآة لمجتمع كامل

تذكرت (تلك الرائحة، واللجنة، وذات، نجمة أغسطس، وبيروت بيروت و..و..) وأعمال أخرى كثيرة تميزت بذلك المزج الفريد بين الحس الصحفي والروح الأدبية.

استعدت (ذات) الموظفة المصرية العادية التي تحولت إلى مرآة لمجتمع كامل، حيث الأخبار اليومية والإعلانات والوجوه العابرة تشكل شبكة حية من الواقع.

 تذكرت (اللجنة)، وذلك الهجاء اللاذع للبيروقراطية والسلطة، بأسلوب رمزي يجمع بين السخرية والجدية.

تخيلتني طفل (التلصص):  أعود إلى بداية الشارع ومنه إلى الميدان.. أعبره.. أمضى من أمام دكان الحاج (عبد العليم) أدخل الحارة.. ألمح أبى فى البلكونة.. الشال الصوفى العريض حول رقبته.. الطاقية الصوفية الكبيرة فوق رأسة.. عنقه ملوى نحو مدخل الحارة يتراجع بمجرد أن يرانى.. أصعد الدرج.. أفتح الباب بمفتاحى.. أدخل الحجرة.. يقف إلى جوار الدولاب ممسكاً بكتاب ( شمس المعارف).. لا يكلمنى.

كل رواية عند (صنع الله إبراهيم) تحمل بصمة (الصحفي المؤرخ)، حيث تتقاطع السرديات الشخصية مع المراجع الواقعية، لتصبح نصوصه أرشيفًا حيًا للواقع الاجتماعي والسياسي.. استخدم القصاصات الصحفية، الإعلانات، والملاحظة اليومية، ليجعل كل رواية أرشيفًا حيًا، شاهدة على زمنه، موثّقة لنبض الشارع وأسرار المدينة.. و يترك عمدا فجوات للقارئ ليملأها، ويحوّل التفاصيل اليومية إلى نوافذ على الحقيقة.

محمد الروبي يكتب: (صنع الله إبراهيم).. المتلصص الذي هزم الموت
الكاتب الحقيقي لا يُشترى.. هذا الموقف أصبح رمزًا لشجاعة المثقف في مواجهة السلطة

الكاتب الحقيقي لا يُشترى

لم يكتب (صنع الله إبراهيم) يوما للجوائز أو التكريمات..  بل ورفضها علناً.. ففي عام 2003، فاجأ الجميع بصفعته المدوية المتمثلة في رفضه جائزة الرواية العربية، معلنًا أمام الحضور العربي والدولي: (لا أستطيع أن أقبل جائزة من نظام يقمع شعبًا ويحمي الفساد).

وهكذا حوّل لحظة التكريم إلى موقف شجاع، يؤكد أن الأدب موقف قبل أن يكون نصًا، وأن الكاتب الحقيقي لا يُشترى.. هذا الموقف أصبح رمزًا لشجاعة المثقف في مواجهة السلطة، وسطرًا خالدًا في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة.

لقد كتب (صنع الله إبراهيم) عن الناس كما لو كانوا أمامه، وعن المدن كما لو كان يمشي في شوارعها، وعن السياسة كما لو كان حاضرًا في قاعاتها المغلقة.. كل تفصيلة، كل همسة، كل ضحكة، تصبح شاهدة على الواقع، ومفتاحًا لفهم مجتمعه.. إنه لا يروي مجرد حكاية، بل يوثق لحظة تاريخية، ويمنحها حياة تتجاوز الورق.

برحيله، نخسر صوتًا صادقًا، وشاهدًا على الحياة اليومية، وعلى اللحظات الصغيرة التي تتحول بيده إلى نص شعري حيّ.. لكنه سيظل حيًا في الأسواق، الحواري، وفي همس الحروف، يذكّرنا أن الأدب الحقيقي هو الشارع، والموقف، والتفاصيل الصغيرة التي لا تموت.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.