رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة
كان يتحكّم بالمقامات والأبعاد الصوتية بطريقة تفوق الخيال

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في قرية (ميت غزال) بمحافظة الغربية، وُلد الطفل (مصطفى إسماعيل) في السابع عشر من يونيو عام 1905، ليكبر بين الحقول والغيطان، وتكبر معه موهبة فذة ستنقل صوت مصر إلى كل بقاع العالم الإسلامي، وتجعله أحد أعظم من جرى على ألسنتهم كتاب الله.

منذ صباه، أطلَّ صوته في ساحات القرية كبرعم طري، يتهدهد بنغمة السماء، ويشدّ السامعين إلى سماء أخرى.. كان والده يعمل في الزراعة، ولم يكن من أهل القرّاء، لكن القدر أهداه ولدًا بصوت لا يُرد. تعلَّم القرآن في كُتّاب قريته، ثم انتقل إلى طنطا، وهناك حفظ القرآن على يد الشيخ محمد أبو عمران.

وبدأ يشق طريقه بين كبار القرّاء، حتى ذاعت شهرته، فطلبه الملوك والرؤساء، وتُلي بين يديه القرآن في البلاط الملكي، وصار القارئ الرسمي في عهود ملوك ورؤساء مصر.

وفي السادس والعشرين من ديسمبر 1978، انطفأ هذا الصوت من الدنيا، لكن صداه لا يزال يتردّد في أعماق قلوب عشّاقه، وفي كل ركن من أركان المساجد التي احتضنت آياته العطرة.

في إحدى زياراته إلى كندا، حيث كانت الجالية المسلمة تبحث عن مكان لإقامة مركز إسلامي، وجدوا كنيسة مهجورة في إحدى المقاطعات، واقترح أحد القساوسة من أصول عربية أن يشتروا تلك الكنيسة ويحوّلوها إلى مركز إسلامي.. وافقت الجالية، وتم تحويل الكنيسة إلى منارة جديدة للهداية.

وكان الشيخ (مصطفى إسماعيل) مدعوًّا إلى غداء ضمّ مسؤولي المركز الإسلامي وعددًا من الوجوه المسيحية.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة
وكان من أبرع من أدرك فن الوقف والابتداء، والانتقال السلس بين المعاني والمقامات

آيات التسامح وصدق الإيمان

خلال كلمته، وقف الشيخ (مصطفى إسماعيل) يشكر الحضور، وعَبّر عن امتنانه لهذا التعايش الجميل، دون أن يعلم أن القس الذي اقترح تحويل الكنيسة إلى مسجد كان بينهم، متخفياً في زيّ مدني. واستشهد الشيخ بالآية الكريمة:

“لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ”.

كان المشهد مشبعًا بالنور، يحمل في طياته آيات التسامح وصدق الإيمان.

كان الشيخ (مصطفى إسماعيل) لا يقرأ القرآن، بل يرسمه في الهواء، كأن آياته خيوط نور تطرزها أنامله على جدران القلب.

كان يتحكّم بالمقامات والأبعاد الصوتية بطريقة تفوق الخيال. وكان من أبرع من أدرك فن الوقف والابتداء، والانتقال السلس بين المعاني والمقامات.

ولم تكن زيارته إلى كندا هي الوحيدة التي حملت الطابع الرمزي العميق، فقد كانت له زيارة خالدة إلى مدينة القدس بصحبة الرئيس الاسبق محمد انور السادات اثناء توقيع اتفاقية السلام و قبل الاحتلال الإسرائيلي الكامل للمدينة، حين كانت لا تزال في حضن العرب والمسلمين.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة
وقف الشيخ (مصطفى إسماعيل) على أعتاب المسجد الأقصى، وتلا من آيات الله ما جعل المآذن ترجف والقلوب تخشع

على أعتاب المسجد الأقصى

وهناك، وقف الشيخ (مصطفى إسماعيل) على أعتاب المسجد الأقصى، وتلا من آيات الله ما جعل المآذن ترجف والقلوب تخشع.. كانت تلك التلاوة بمثابة رباط روحي بين مصر وفلسطين، بين الأزهر والقدس، بين تلاوة السماء وأرض الأنبياء.

قال بعض من حضروا تلك الليلة إن صوت الشيخ حينها لم يكن يخرج من حنجرته فقط، بل من تراب القدس نفسه، وكأن المكان كان يرد التلاوة بتنهيدة حب وشوق.

وقد ظلّت تلك الزيارة علامة على أن القرآن لا يعرف حدودًا، ولا يمنعه احتلال، ولا يحجبه جدار.

لقد دخل بصوته إلى القدس كما يدخل النور إلى الغرف الموصدة، وترك فيها أثرًا لا يُمحى.. في تلاوته لسورة الحاقة مثلًا، تظهر عبقريته بأبهى صورها.

إذ يبدأ بآيات التهديد والوعيد بصوت مشبع بالقوة والرهبة، وحين يصل إلى مشهد من يؤتى كتابه بشماله، يتحول صوته إلى مشهد درامي صوتي حي، نكاد نرى ملامح الهول على وجه المستمعين، ونسمع أنين الندم في نبراته.

ثم ينقلب المشهد حين يصل إلى من يؤتى كتابه بيمينه، فنسمع البشرى في حنجرته، وكأن الملائكة تزف المؤمنين بأكاليل النور.. كانت تلاوة سورة الحاقة بصوته مسرحًا إلهيًا سماويًا، لا يُنسى.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة
صلاح منصور
رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة
شكري سرحان

عندما نداه (صلاح منصور)

الناس كانوا يأتون من كل فج عميق، لا لحضور مناسبة عزاء فحسب، بل لحضور ليلة يكون فيها الشيخ (مصطفى إسماعيل) هو الإمام الصوتي لجلال القرآن.

لم يكن الحضور جمهورًا عاديا، بل كان جمهورًا من المحبين، من العاشقين، من الهائمين.

كان من بينهم عمالقة الفن، كالفنان (شكري سرحان)، والفنان العظيم (صلاح منصور)، الذي كان يتتبع الشيخ من عزاء إلى عزاء، كما يتتبع المحب أثر الحبيب في الرمال.

ورُوي أن الفنان (صلاح منصور)، في إحدى الليالي، لمّا سمع الشيخ (مصطفى إسماعيل) يتلو آية بعذوبة خارقة، ناداه بصوت متهدج:

(والنبي يا شيخ مصطفى، عيد الآية دي.. لو ما عدتّهاش أنا هقوم أمشي)!

فابتسم الشيخ، ثم أعاد الآية مرة ومرتين، وفي كل مرة كأنها تُولد من جديد، حتى انفجرت العبرات من عيون صلاح منصور، ومن خلفه جمهور كامل كان ينتظر إعادة الآية كما ينتظر العطشان قطرة الماء.

كان صوته يُشبه البخور، لا يُشبعك، بل يُسكر روحك، ويعلو بك إلى حيث لا تدري.

ولذا، لم يكن الشيخ مصطفى إسماعيل مجرد قارئ، بل كان شاعرًا بالنغمة، وفقيهًا في الوقف، وفنانًا بالفطرة.

قال عنه البعض: (إنه يقرأ كما يلحن عبد الوهاب، وكما تغني أم كلثوم)، وقال غيرهم: (إن صوته مدرسة قائمة بذاتها، ينهل منها كبار القراء حتى اليوم).

ولأنه لم يكن أسير التقليد، بل مبتكرًا ومجددًا، فقد ترك أثرًا خالدًا في علم التجويد وفن التلاوة، وجعل للقرآن روحًا جديدة في نفوس الناس.

رسمي فتح الله يكتب: الشيخ (مصطفى إسماعيل).. حين قرأ القرآن في كنيسة
كان من محبي الاستماع إلى السيدة أم كلثوم والأستاذ محمد عبد الوهاب

يمتلك أذنًا موسيقية مرهفة

وكان الشيخ (مصطفى إسماعيل) منفتحًا على فنه وعصره، فقد كان من محبي الاستماع إلى السيدة أم كلثوم والأستاذ محمد عبد الوهاب، وكان يمتلك أذنًا موسيقية مرهفة، حتى أن أم كلثوم كانت تستأنس برأيه في بعض المقامات الموسيقية التي تعتمدها في غنائها.

وكان يَظهر في إحدى الصور النادرة مع زوجته التي لم تكن محجبة، وهو ما يعكس جانبًا من انفتاحه الاجتماعي والفكري، ويؤكد أنه كان يعيش روح الدين لا شكله، ويدرك أن الجمال في الإيمان لا في المظاهر.

وقد علّم أبناءه الستة، فخرج من بيته المهندس، والدكتور، والإنسان الذي يعتز بأن والده هو صوت من أصوات السماء.

لقد قرأ القرآن في الكنيسة، لا ليسمح لصوته أن يتسلل إلى المآذن، بل ليثبت أن كلام الله لا يحدّه مكان، وأن التسامح لا تقف أمامه جدران المذاهب.

هو الشيخ (مصطفى إسماعيل)، الذي عاش في القرن العشرين، ومات في نهايته، لكنه لم يرحل قط.. ما زال صوته يملأ الأثير، وما زالت القلوب تُصغي، وكأنها تسمعه لأول مرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.