رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد الروبي يكتب: (فيروز) مع (زياد).. من الجبل إلى المدينة

محمد الروبي يكتب: (فيروز) مع (زياد).. من الجبل إلى المدينة
(فيروز)، و(زياد) لم تُلغِ (فيروز عاصي)، بل أضافت لها بعدًا ثالثًا
محمد الروبي يكتب: (فيروز) مع (زياد).. من الجبل إلى المدينة
محمد الروبي

بقلم الناقد الفني: محمد الروبي

في حياة كل فنان لحظة اختيار: إما أن يبقى في المنطقة المضمونة التي صنعت مجده، أو أن يخاطر بعبور مجهول.. و(فيروز)، بما تمثّله من ظاهرة فنية وثقافية، اختارت أن تعبر.

تبدأ الحكاية مع الأخوين رحباني.. كانا الصوت والظل والشكل والخيال.. وفي ظلّهما، ظهرت فيروز لا كمجرد مطربة، بل ككائن غنائي جديد، نقيّ، متعالٍ عن الصراخ والافتعال، يُغني كمن يهمس في أذن البلاد.

(فيروز) الرحبانية كانت صوت لبنان كما يُحب أن يكون: جميلًا، عذريًا، متصالحًا مع أسطورته وجباله وكنائسه وأزقّته الضيقة.

لكن، حين دخل (زياد الرحباني) المشهد، دخل بمشروع آخر.. لا مكان فيه للحنين المجرد أو الحلم القومي الصافي.. بل عالم أكثر صخبًا، يشبه المقهى لا المعبد، الحارة لا الجبل، اليومي لا الميثولوجي.. موسيقاه أكثر تقاطعًا مع الجاز، أكثر وقاحة في لغتها، وأحيانًا أكثر صدقًا في مرآتها.

ولأن الأب (عاصي) كان قد غاب بدت اللحظة مفصلية: هل ستواصل (فيروز) الطريق القديم؟ أم تتجرأ على مسار جديد مع ابنها؟، وكان الجواب: الاثنان معًا، بلا تناقض.

فـ (فيروز)، و(زياد) لم تُلغِ (فيروز عاصي)، بل أضافت لها بعدًا ثالثًا.

محمد الروبي يكتب: (فيروز) مع (زياد).. من الجبل إلى المدينة
حافظت (فيروز) على صوتها، ذاك الذي يشبه الصمت حين يُغنّى

الصمت حين يُغنّى

حافظت (فيروز) على صوتها، ذاك الذي يشبه الصمت حين يُغنّى، لكنها سمحت له أن يتحرك في فضاء جديد.. لم تعد فقط (سيدة الجبل)، بل صارت أيضًا المرأة التي تنتظر على شرفة بيت قديم، التي تشكو من رتابة النهار، أو تضحك على عبث الحياة.

من (رجعت الشتوية) إلى (كيفك إنت).. من (زهرة المدائن) إلى (مش خايفة) تحوّلت الأغنية من نشيد إلى اعتراف، من خطاب إلى حوار، دون أن تفقد قدسيتها.

حين نستعرض الأغاني التي قدمتها فيروز مع الأخوين رحباني، نجد أنها كانت غالبًا البطلة التي لا تُمسّ.. المرأة الحلم، الوطن، العذراء، الحبيبة المنتظرة عند حافة الجبل أو في خيال الجندي.

في (بكتب اسمك يا حبيبي)، تكتب اسم الحبيب على الحور العتيق، والعواصف، وعلى الساحات.. في (زهرة المدائن)، تصير صرخة مقدّسة للقدس.. في (كان الزمان وكان) تعيش في ذاكرة لا تشيخ.

كل شيء في تلك المرحلة يبدو كأنه يغني فوق الأرض، في مستوى أعلى من الواقع، لكن حين ننتقل إلى أغاني (زياد)، نرى (فيروز) أخرى.. أقرب إلينا، أكثر هشاشة، أكثر صدقًا، وربما أكثر ألمًا.

محمد الروبي يكتب: (فيروز) مع (زياد).. من الجبل إلى المدينة
في (كيفك إنت)، تُخاطب الحبيب بمرارة، بكلام شبه عادي لكنه جارح

لا ترفع الصوت، بل تتهدج

في (كيفك إنت)، تُخاطب الحبيب بمرارة، بكلام شبه عادي لكنه جارح:

(بدي قلك شغلة، ما بدي زعلك، بحبك).

وفي (أنا عندي حنين)، تقول:

(أنا عندي حنين ما بعرف لمين، بس بحسّ إنّي عم بشتاقلكن..).. حنين مبهم، لا اسم له، يشبه الغصة التي لا يعرف صاحبها مصدرها.

(فيروز -زياد) لا تحتفل، لا ترفع الصوت، بل تتهدج.. تتكلم عن الملل (قال قايل)، عن الحيرة، عن الحب الذي لا يكتمل (بيتي صغير)، عن الحياة كما هى، لا كما ينبغي أن تكون.

وبين هاتين الفيروزين – فيروز الرمز وفيروز الإنسان – لا تعارض.. بل هناك صوت واحد يجرّب لغتين: لغة تُحلّق في فضاء الحلم.. ولغة تسير بين الناس، تتكئ على الواقع وتهمس بما لا يُقال.

هذه (المقابلة) الفنية لا تفرّق بين فيروزين، بل تكشف عن اتساعها.. فهى الأسطورة التي قَبِلَت أن تكون إنسانة، والإنسانة التي ظلّت تحتفظ ببريق الأسطورة.

لقد استطاعت (فيروز) أن تمر عبر تحوّلين فنيين كاملين، من الأخوين إلى زياد، دون أن تنكسر صورتها أو تتشوه.. ما تبدّل هو الإطار فقط، أما الجوهر فبقي: (فيروز) كائن الضوء الذي كلما تغيّر المحيط، ازداد صفاءً.

ليست كثيرات من المطربات مَن تجرأن على هذا النوع من التجريب.. لكن (فيروز)، ببساطة لم تكن مطربة.. كانت وما زالت صوتًا حرًا، ينتمي لنفسه، وينجح مع كل من يقترب منه بصدق، لا بخطة.

في النهاية، حين نسمع (لبيروت، وبكتب اسمك يا حبيبي)، ثم ننتقل إلى (أنا عندي حنين)، أو (قال قايل) لا نشعر أننا غادرنا (فيروز)، بل كأننا نكتشفها من زاوية أخرى.. زاوية لا تشبه التي قبلها، لكنها تحمل البريق ذاته.

 فيروز، ببساطة، بقيت هى وهى تتغير.. وهذه، وحدها، معجزة الفن الحقيقي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.