
بقلم المستشار: محمود عطية *
السجون ليست مسارح لزيارة (المشخصاتية) ومسرحة الواقع.. في مشهد لا يخلو من عبثية موجعة فوجئنا مؤخرًا بتقارير إعلامية وصور ترويجية لزيارة إحدي ربيبات التشخيص إلى أحد السجون المصرية، الزيارة التي جرت تحت أضواء الكاميرات.
وأظن أنها برعاية مؤسسات رسمية فكانت أشبه بجولة سياحية في منتجع تأهيلي لا في منشأة عقابية يُفترض أن تكون جزءًا من منظومة عدالة حقيقية.
التصريحات التي أعقبت الجولة لم تكن أقل غرابة إذ عبّرت (المشخصاتية) عن دهشتها من نظافة المكان، تنظيمه، شياكته، ووجود مكتبة وملاعب ومسجد، في وصف أقرب إلى تسويق منشأة فندقية لا تقييم مؤسسه عقابيه في مصر.
وهنا لا بد من التوقف، لا أمام التصريحات السطحية التي رددتها تلك السيدة (المشخصاتية) بلا مسؤولية، بل أمام السؤال الجوهري من الذي يقرر دعوة أهل التشخيص لزيارة السجون؟ وبأي صفة؟
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها استدعاء أحد رموز الوسط من (المشخصاتية) لتأدية دور في مسرحية سياسيه أمنيه رسمية إذ أصبحت مؤسسات سيادية تستعين بشخصيات عامة من المشخصاتيه ولاعبي كرة وإعلاميين لتجميل واجهة متهالكة، ولإقناع الرأي العام أن كل شيء على ما يرام.
وأن السجون ليست إلا صروحًا حضارية للنقاهة الفكرية والرياضة الروحية، ولكن بالطبع لا نري إعلام من التخصصات المرموقه علميا وكأن مصر قفلت على هؤلاء.. كفي بالله استفزاز الشعب، لأن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الديكور المُجمّل ومن العبث السياسي باسم الفن.
تحويل السجون إلى واجهات تجميلية يزورها (المشخصاتية) ليس مجرد عبث بصري، بل هو جزء من بنية تضليل ممنهجة، فالمشخصاتي لا يُستدعى هنا بصفته مواطنًا عاديًا يسعى لفهم الحقيقة، بل يُستدعى بصفته أداة تسويق ضمن استراتيجية (غسل الصورة)، وما أسهل أن تنطلي عليه الحيلة، إذا قُدِّم له المسار المنتقي والمرافق المجهزة وابتسامات معدّة سلفًا للكاميرا.

أبعاد إنسانية وحقوقية
تخيّل أيها القارىء الكريم أن تتحول قضية مثل أوضاع السجون بما تحمله من أبعاد إنسانية وحقوقية وقانونية إلى عرض علاقات عامة من خلال بعض (المشخصاتية)، لا يسمح فيه بمساءلة حقيقية أو اطلاع مستقل أو نقاش موضوعي. إن من يصف السجن بـالراقي لأنه رأى ملعبًا أو مكتبة، هو كمن يصف جحيمًا مزخرفًا بأنه منتجع لأنه مدهون حديثًا.
فحين يغيب أهل الشأن وتحضر المجاملة، ومن العيب أن يختفي الصحفيين والباحثين الحقوقيين من الدخول إلى السجون، ثم نفتح الأبواب أمام شخصيات استعراضية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمنظومة العدالة والقضاة؟
أين منظمات حقوق الإنسان؟، أين الأسر التي تُمنع من الزيارة أو تُفتّش بشكل مهين؟، هل سُمح لزوار (الاستعراض) بلقاء محتجزين سياسيين؟ هل زاروا زنازين التأديب أو مرافق العلاج؟، أم أن كل ما رُتب كان مجرد مشهد تمثيلي خالٍ من أي مضمون حقيقي؟
ياحضرات: العدالة لا تُقاس بنظافة الطلاء ولا بعدد الكتب على الرفوف، بل بغياب الظلم واحترام الإنسان الذي كرمه الله في كتابه الكريم (ولقد كرمنا بني آدم)، وبتوفر المحاكمة العادلة، وباحترام الكرامة الإنسانية.
أما هذه الجولات المصممة بعناية فهي ليست سوى تبييض للوجه الحقيقي للمؤسسات، وتسويق ممنهج لصورة لا تشبه الواقع إلا في خيال من أخرج المشهد مع الاقرار بأن هناك محاولات لتحسين أوضاع السجون، ولكن لم تصل الي المرجو منه فالسجون ليست نوادي اجتماعية.
فربما لا تدري (المشخصاتية) الزائرة ولا من سبقها أن هناك اموراً كثيرة لا تدركها تماما، وربما لم تقرأ يومًا تقريرًا حقوقيًا جادًا، أو لم تسمع عن الشكاوى الصادقة التي توثقها منظمات دولية وإقليمية مستقلة ومحايدة، وليست ممن تتصيد وتتربص بمصر لكن الجهل هنا ليس عذرًا، بل مشاركة ضمنية في التزييف.
وحين تتحدث عن الجامع والملاعب فلتتذكر أن هناك من لا يُسمح له برؤية أسرته، أو تُمنع عنه الزيارة شهورًا، أو يُجبر على الصمت تحت التهديد، هناك من لا يملك حق الدفاع عن نفسه، ولا يجد محاميًا يتابعه، وهناك من يُحرم من أبسط حقوقه كسجين.

المسجونين وترف المعيشة
وهذه ليست ملاحظات من خصوم سياسيين، بل حقائق مدعومة بالشهادات، والأرقام، والتقارير، ومن واجبنا ألا نسمح بتجميل الحال بالورود، ولا بتغطية نداءات المساجين بالأغاني الخفيفة وبزيارة النبي حارسها.
والأخطر من كل ذلك، أن مثل هذه الزيارات إذا تُركت دون رد تُحوّل الدعاية إلى حقيقة، وتُثبّت في أذهان العامة أن السجون بخير، وأن المسجونين ينعمون بترف المعيشة، وهذا تضليل يتجاوز الكذب وإنه جريمة أخلاقية في حق كل مظلوم بالضبط كما وصف الشيخ (كنتاكي) ونعت السجين بالنزيل من قبل ونحن جميعا نعلم ضلاله.
فالدولة التي تستقوي بالاستعراض وتتهرب من الرقابة المستقلة، إنما تُدير شؤونها بمنطق المسرح لا بمنطق المؤسسات، وحين يغدو التشخيص و(بيكا) أداة في يد السلطة، لا صوتًا للشعب، ينقلب دوره من مرآة للحقيقة إلى ستار للزيف وصناعة شراذم بعض السجناء أكثر منهم علما وثقافه وحبا للوطن، والكل يعلم أن المذكورين دولار يود يوديهم ووجبة عشاء او غذاء تأتي بهم.
الخلاصه ياحضرات:
إن زيارة (المشخصاتية) إلى السجون لهي سابقه خطيره في غياب رقابة حقيقية ومساءلة مستقلة ليست حدثًا عابرا، بل فعل سياسي له تبعاته الخطيرة.
وهو يعكس اختلالًا عميقًا في فهم وظيفة التشخيص التي لم تكن تقبل شهادتهم ويلزمهم تصريح من الآداب عند سفرهم، وألغي هذا الإجراء من تاريخ ليس بعيد، إذا ما موقعهم من السلطة، ودورهم في نقد الواقع لا تجميله/ وهل زيارة السجون اصبحت رحله ترفيهية؟
لقد آن الأوان لنقول بوضوح: لا يجوز أن تُستعمل شهرة (المشخصاتية) لتبرئة واقع تعمل الدوله على ترميمه أم تتحول القضايا الحقوقية إلى عروض علاقات عامة، وإذا كان ولابد من شهادة عن السجون، فلتكن من الحقوقيين، ومن منظمات مستقلة حيادية لا تتلقى تعليماتها من مكاتب الإنتاج الإعلامي أو جهات معادية للدولة المصرية.
أما أن يتحول (المشخصاتية) إلى شهود فهذا غير منطقي وغير مقبول حتي من المنظمات الحقوقية المحترمة ولا مجلس حقوق الانسان العالمي، وهنا أناشد الرئيس السيسي بإصدار توجيهات سيادته بالكف عن الاستخفاف بعقول المصريين، وكذلك المنظمات الحقوقية لأن الكل يعلم وخاصه المهتمين بالشأن العام أن هناك حوالي 250 نقطه مطلوب الرد عليها في ملف حقوق الإنسان.
اللهم احمي مصر من داخلها فأما الخارج فالقيادة والجيش البطل كفيلا بهم بعون الله.
* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع