رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: حين تحدّث الفن بلسان (عبد الرحمن أبو زهرة) في (سكار وسردينة)!

رسمي فتح الله يكتب: حين تحدّث الفن بلسان (عبد الرحمن أبو زهرة) في (سكار وسردينة)!
لم يكن (عبد الرحمن أبو زهرة) مجرد ممثل، بل كان نحاتًا في زمن التمثيل

بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله

في مدينة دمياط، حين كانت الأزقة تهمس بأسرار البحر، والمراكب الخشبية تعجن الضوء بالماء، وُلد (عبد الرحمن أبو زهرة) في الثامن من مارس عام 1934.. ولد كما تولد الأشجار النادرة، لا تسأل عن مكانها، فهي تفرض ظلها أينما وجدت.

كبر الفتى وسط نسائم ملونة برائحة الخشب والبحر، قبل أن يقفز قلبه نحو قاهرة المعز، حاملاً في عينيه بريق الحلم وطموحًا يفيض عن جسد هادئ ومتواضع.

كان الحلم فخماً، له طعم المسرح، وله رائحة الكتب القديمة.

التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وسكب قلبه على مقاعده حتى تخرج حاملاً بكالوريوس التمثيل عام 1958.

رسمي فتح الله يكتب: حين تحدّث الفن بلسان (عبد الرحمن أبو زهرة) في (سكار وسردينة)!
أول لقاء له بالجمهور من خلال مسرحية (بداية ونهاية)

لم يترك بابًا إلا وطرقه

عمل موظفًا في وزارة الحربية، ولكن المسرح الوطني سرقه من الأرقام والملفات، فتم تعيينه ممثلاً رسميًا في المسرح القومي عام 1959، ليكون أول لقاء له بالجمهور من خلال مسرحية (بداية ونهاية) للأديب نجيب محفوظ، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي فيما بعد.

لم يكن (عبد الرحمن أبو زهرة) مجرد ممثل، بل كان نحاتًا في زمن التمثيل، ينحت على الوجدان مشاهد لا تتآكل بمرور الزمن.

كل كلمة نطقها، كل إيماءة أطلقها، كانت كأنها حجر كريم صُقل بمعرفة صائغ ماهر عشق الفن.

على خشبات المسرح، تدفق نهر موهبة (عبد الرحمن أبو زهرة) بعنفوان (الحسين شهيدا، ياسين وبهية، لعبة السلطان، السبنسة، الفرافير) و أكثر من ثلاثون مسرحية قدمها (أبو زهرة) للمسرح .

في دروب السينما، كان كالعطر المعتق، يظهر حتى في الأدوار الصغيرة، فتشتم رائحته النفاذة مهما تزاحمت الوجوه.

من (الجزيرة)، حين أدى دور فؤاد بحنكة القادة، إلى (أرض الخوف)، حيث جسد (موسى) موظف البريد  الروتينى الذى نسى يحيى (أحمد زكي) و رسائله الأمنية، ومن (النوم في العسل)، رئيس تحرير الصحيفة الذي يغزل الأسئلة كغزل الحرير، إلى (طلق صناعي)، حيث قدّم رئيس الوزراء ببرود سياسي لا يخلو من تهكم خفي.

عن فيلم (أرض الخوف)، تحدّث (عبد الرحمن أبو زهرة) ذات مساء في استضافة تلفزيونية نادرة، فقال بصدق فنان يعرف حجم ما يقدّمه:

(أنا بعشق التمثيل، ومحبش أعمل الشخصية غير لما أتوحد فيها تمامًا.. حصل موقف فى (أرض الخوف)، كنا بنصور مشهد فى مسجد السلطان حسن مع (أحمد زكي)، وبعد ما خلصنا المشهد، حسّيت إني مش راضي عن نفسي، فروحت لداوود عبد السيد وقلت له نعيده، قال لي: نكلم (أحمد زكي). وبالفعل كلمناه، ووافق فورًا، وقال المعدات ترجع تاني، ونعيد كل حاجة علشان المشهد يرضى عنه (عبد الرحمن أبو زهرة).

ثم سكت، وتنهد كمن تذكّر وهج اللحظة، وأضاف بحب: (أحمد زكي) شوفته على المسرح  زمان وأيامها، شوفت واحد متقمص خمس شخصيات، أبهرني جدًا، وكان لسه طالب.

 قلت له: (أنت عبقري يا أخي، وهتبقى ممثل كبير جدًا… وانبسطت جدًا لما اتقابلنا سوا في أرض الخوف).

رسمي فتح الله يكتب: حين تحدّث الفن بلسان (عبد الرحمن أبو زهرة) في (سكار وسردينة)!
كان المعلم الكبير، صاحب القيم والنصائح المغزولة من خيوط الصدق والخبرة

نموذجًا للمعلم الطيب الصارم

تلك اللحظة لم تكن مجرد ذكريات، بل كانت شهادة حب من فنان لفنان، واعتراف ضمني بأن الأداء الصادق لا يُقاس باللقطات، بل بما يتركه في القلب من رجفة.

ولا يمكن نسيان حضوره الطاغي في (تيتة رهيبة) كجد رؤوف يوزع الدعابات بيد، ويربت على جراح الزمن باليد الأخرى، ولا ملامحه التي ازدادت حكمة في (أهل الكهف)، و في (الفارس والأميرة)، الذى عرض بعد عشرين خريفًا من الانتظار، رأى (الفارس والأميرة) النور، ووقف (عبد الرحمن أبو زهرة)، كاهن الدمار، يهمس بصوته في ذاكرة الحكاية.

فيلم (حلم)، سكنه لعشرين عامًا، حتى عاد (فارس البصرة) ليقاتل القراصنة، ويعانق قدره بين الأميرة والدمار.

لكن الصهيل الحقيقي لصوته، وصداه الذي ظل يرن في وجدان الملايين، جاء من بوابة التلفزيون المصري، حين وقف بجانب الأسطورة (نور الشريف) في مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي) متقمصًا شخصية الحاج (إبراهيم سردينة.)

كان المعلم الكبير، صاحب القيم والنصائح المغزولة من خيوط الصدق والخبرة، التي قدمها لصبيه معلم عبد الغفور البرعي (نور الشريف).

كان بمثابة الصديق، والأب، والمرايا الصافية التي كانت تعكس صراعات البطل مع ذاته وعالمه.

لم يكن الحاج (إبراهيم سردينة) مجرد دور أداه (عبد الرحمن أبو زهرة)، بل كان هو ذاته – الحكيم الذي يعرف متى يصمت، ومتى يضرب على الوتر الحساس، ومتى يسحب البساط تحت قدميك بابتسامة ساخرة أو نظرة تعبر عن كتب كاملة.

كان، ولا يزال، أحد أهم أدوار الدراما العربية، نموذجًا للمعلم الطيب الصارم، الحكيم الرقيق، صانع الرجال الحقيقيين.

وعن المسرح، تحدث (عبد الرحمن أبو زهرة) ذات مرة عن دوره في مسرحية (الفرافير) وقال بنبرة يملؤها التحدي والحنين: (كرم مطاوع مخرج عبقري، لكن كان رزل في الإخراج).

ثم ضحك، وأكمل: (الدور اللي عملته، كان معروض قبل كده على حسن البارودي ورفضه، ولف لفة كبيرة لغاية ما وصل لي.. وكان دور ميت في كفن! ووافقت عليه، وأنا مؤمن إن الممثل الحقيقي ما بيخافش من حجم الدور، بيخاف من ضعفه قدامه)؟.. تلك الفلسفة هى مفتاح هذا الفنان: لم يكن يقيس الأدوار بطول المشهد، بل بطول التأثير.

رسمي فتح الله يكتب: حين تحدّث الفن بلسان (عبد الرحمن أبو زهرة) في (سكار وسردينة)!
كان (عبد الرحمن أبو زهرة) في حياته الخاصة إنسانًا مرهفًا، يحب عائلته

إنسان مرهف، يحب عائلته

ورغم صلابته أمام الكاميرا، كان (عبد الرحمن أبو زهرة) في حياته الخاصة إنسانًا مرهفًا، يحب عائلته، ويعتني بتفاصيلهم كما يعتني بتفاصيل أدواره.

ظل حاملًا لقنديل المسرح والتمثيل حتى اليوم، لم تُطفئ السنوات شغفه، ولم تسرق منه الحياة لهجته العذبة التي تمتزج فيها الحكمة بالسخرية بالحب.

أعماله تفيض كالنهر: من مسلسلات (محمد رسول الله، إلى عمر ابن عبد العزيز، إلى نور الإسلام)، ومن برامج (شعراء المعلقات)، إلى أداءاته الإذاعية الخالدة التي حكت التاريخ والأساطير وقصص الأنبياء بلغته الرنانة وحنجرته التي تشبه التكبيرات في ليلة العيد.

وجسد شخصية إبليس في (محمد رسول الله – الجزء الثالث)، وبرع في الغواية كما لم يبرع غيره، مؤديًا الشر بعمق الفهم لا سذاجة الصورة، مقدمًا درسًا دراميًا في كيفية تناول الأدوار المركبة دون ابتذال.

لكنه لم يكتفِ بكل ذلك، بل تسلّل صوته إلى عوالم الصغار، إلى غرف نوم الأطفال، إلى مسارح الخيال، حين أدى بصوته فقط دور (سكار) في النسخة العربية من فيلم (الأسد الملك) الشهير، الذي أنتجته (والت ديزني).

فقال في حوار تلفزيوني مع الإعلامية بسمة وهبة: (كنت الاختيار الأول لأداء دوبلاج الأسد سكار، وديزني منحتني جائزة تقديرًا لهذا الأداء).

وأضاف: (كنت أحفظ جيدًا حوار الشخصية، وأدرس مشاعرها بدقة كما أفعل في أي عمل مسرحي أو درامي)

هنا، تتجلى عبقريته.. فـ (سكار) لم يكن مجرد صوت غاضب أو شرير في فيلم كرتوني، بل كان كيانًا حيًا تشكّل من حنجرة فنان يعرف كيف يُطوّع الصوت ليحمل الغدر في نبرة، والحزن في تنهيدة، والدهاء في همسة.

كان (عبد الرحمن أبو زهرة) في هذا الدور يقرأ الشخصية لا من النص، بل من عمقها النفسي.. أعطى لـ (سكار) بُعدًا فلسفيًا، كأنه شخصية من تراجيديا إغريقية، لا أسدًا متحركًا في غابة ديزنية.

رسمي فتح الله يكتب: حين تحدّث الفن بلسان (عبد الرحمن أبو زهرة) في (سكار وسردينة)!
زهرة المسرح التي لم تذبل، وصوت الحكمة الذي ظل يتردد بين أجيال الممثلين والمشاهدين

كلماته:

(استعدوا  أنا سكار، الأخ المنسي، المنفي في الظلال).

جعلها (عبد الرحمن أبو زهرة) أشبه بلطمات شعرية، تحمل بين طياتها المرارة والغيرة والكبرياء، وتغوص في أعماق الغدر لا سطحه.

أداءه جعل الأطفال يحفظون جملاً من حواره كما يحفظون نشيدهم الصباحي، فصار صوته مرتبطًا بذكرياتهم الأولى، كأنهم عرفوا الغدر لأول مرة بصوته، وتعلموا الحذر من فم ممثل يُتقن الغواية كما يُتقن الفضيلة.

وليس غريبًا أن تكرّمه ديزني، ولا أن يُعدّ هذا الدور من أبرز تجارب الدوبلاج في العالم العربي، لأن ما فعله (عبد الرحمن أبو زهرة) هو باختصار: إحياء شخصية لا يراها، لكنه يشعر بها، فيغرسها في عقول المشاهدين، كبارًا وصغارًا، كأنها حقيقة لا كرتون.

إنه (عبد الرحمن أبو زهرة)، زهرة المسرح التي لم تذبل، وصوت الحكمة الذي ظل يتردد بين أجيال الممثلين والمشاهدين.

ومن بين أضواء الخشبات الباهتة، وأصوات الكاميرات التي خفت بريقها، يبقى واقفًا، كشجرة عنيدة في صحراء الفن، تظلل القادم وتعلم العابر، وتبتسم لكل من يقدّر معنى أن تكون فنانًا حقيقيًا في زمن يذوي فيه كل شيء إلا الأصالة.. تحية تقدير واحترام له في عزلته الحالية، وندعو الله أن يمتعه بالصحة والعافية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.