

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
(إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا. لا أريد أن أكون مجرد خبر عاجل، أو مجرد رقم في مجموعة، أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا يمحى أثرها بمرور الزمان أو المكان)، عبارة كتبتها المصورة الفلسطينية (فاطمة حسونة)، على حسابها في فيسبوك، قبل أسابيع من استشهادها على يد الاحتلال الغادر.
كان ذلك إثر غارة جوية شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية شمالي قطاع غزة، وخلّفت (فاطمة حسونة) وراءها عدسة وثقت ألم الأرض وتضحيات البشر، وصورًا تجسد نضال الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت وطأة الحرب منذ أكتوبر 2023.
(فاطمة)، بطلة الفيلم الوثائقي (ضع روحك على كف وامش (Put Your Soul in Your Palm and Walk)، الذي سيُعرض في قسم ACID (جمعية السينما المستقلة للتوزيع) في مهرجان (كان) السينمائي الشهر المقبل، كانت تستعد للاحتفال بزفافها في الأيام القليلة المقبلة.
أمضت (فاطمة حسونة)، شهورا في توثيق الغارات الجوية، وتدمير منزلها، ومعاناتها من النزوح المستمر، لكنها استشهدت في غارة إسرائيلية استهدفت منزل عائلتها في شارع النفق بمدينة غزة، قبل أن تحتفل بزفافها.
روى (حمزة حسونة)، ابن عم (فاطمة حسونة)، تفاصيل الغارة يوم الجمعة، قائلا: (كنت جالسا عندما انفجر صاروخان فجأة، أحدهما بالقرب مني والآخر في غرفة المعيشة. سقط المنزل فوقنا، وكان الوضع كارثيا بكل معنى الكلمة).
(فاطمة حسونة)، التي فقدت 11 فردًا من أسرتها في يناير 2024، قررت أن توثق ما يحدث في غزة عبر عدستها، من خلال فيلمها الوثائقي الذي تتتبع من خلاله المخرجة الإيرانية (سبيدة فارسي) حياة فاطمة في غزة منذ بداية الهجوم الإسرائيلي. وتعرض فيه كيف استخدمت (فاطمة حسونة) كاميرتها لنقل معاناة الغزيين وتوثيق المجازر والانتهاكات، وتوثيق مشاهد الحزن في عيون الأطفال، وصلابة الآباء، وصبر الأمهات وكبار السن الذين تمسكوا بأرضهم رغم الآلام والجراح.

تسليط الضوء على المذبحة
ووصفت مخرجة الفيلم، في بيان لها، أن العمل كان بمثابة نافذة فتحت لها فرصة لقاء مع (فاطمة حسونة)، لتسلط الضوء على المذبحة المستمرة التي يعاني منها الفلسطينيون.
وقالت (فارسي) إن (فاطمة حسونة) كانت (شخصية مليئة بالإشراق والضوء، تتمتع بابتسامة ساحرة، وتحمل تفاؤلا طبيعيا في قلبها)، وأضافت أنها تعاونت مع (حسونة) على مدار أكثر من عام لإنتاج الفيلم الوثائقي، ما جعل العلاقة بينهما تتوطد وتصبح أكثر قربًا.
وأوضحت (فارسي) أن آخر اتصال جمعها بـ (فاطمة حسونة) لتسلط الضوء على المذبحة المستمرة كان قبل يوم واحد من وفاتها، عندما كانت تعتزم إبلاغها بـ (الخبر السار) المتعلق بالفيلم، وقالت (فارسي): (ناقشنا إمكانية سفرها إلى فرنسا في مايو من أجل عرض الفيلم في مهرجان كان، حيث كانت هى بطلة الفيلم).
وأكملت (فارسي) قائلة: (حينما تلقيت خبر وفاتها، شعرت أنه لا يمكن أن يكون صحيحًا، أتمنى أن يعكس هذا الفيلم الوثائقي حياة (فاطمة حسونة) في غزة، وأن يكون بمثابة تكريم لروحها وذكراها).
وقالت إنها عاشت في قلق دائم على حياة (فاطمة حسونة)، وأضافت: (كنت أخبر نفسي أنه ليس من حقي أن أخاف عليها إذا لم تكن هى نفسها تشعر بالخوف، تمسكتُ بقوتها وبإيمانها العميق، وأوضحت (فارسي)، التي تعيش في فرنسا، أنها كانت تخشى أن تكون (فاطمة حسونة) قد تعرضت للاستهداف بسبب عملها كصحفية فوتوغرافية تحظى بمتابعة واسعة، واهتمامها المتزايد بالمشاركة في الفيلم الوثائقي.
تعددت الإدانات على الجريمة، ومنها إدانة مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين استشهاد الصحفية (فاطمة حسونة)، موضحًا أن الغارة التي تسببت في وفاتها تُعد (جريمة) ضد الصحفيين وانتهاكا صارخا للقانون الدولي، واعتبر أن (الصور المؤثرة التي التقطتها (فاطمة)، والتي توثق الحياة تحت الحصار، انتشرت عالميا لتسلط الضوء على الخسائر البشرية المدمرة التي خلّفتها الحرب).

صور لصيادي غزة
وشاركت (فاطمة حسونة) صورها على منصتي فيسبوك وإنستجرام، حيث يتابعها أكثر من 35 ألف شخص، وقد وثقت من خلال عدستها التحديات اليومية التي يواجهها سكان غزة، وكذلك التهديدات التي تنطوي عليها الحياة تحت القصف الإسرائيل.
وكان آخر منشور نشرته (فاطمة حسونة) على صفحتها في فيسبوك عبارة عن سلسلة من الصور التي التقطتها لصيادي غزة على شاطئ البحر، يوم السبت الماضي، قبل أقل من أسبوع من استشهادها.
ورافق الصور قصيدة قصيرة كتبت فيها: (من هنا تتعرف على المدينة.. تدخلها، لكنك لا تغادرها، لأنك لن ترحل، ولن تستطيع)، لتعبر عن روحها التي كانت متمسكة بغزة، والتي لم تغادرها حتى آخر لحظات حياتها.
من جانبه أعرب مهرجان (كان) السينمائي، عن صدمته وحزنه العميق، لاستشهاد المصورة الصحفية الفلسطينية (فاطمة حسونة) التي شكلت محور فيلم من المقرر عرضه الشهر المقبل في المهرجان.
كانت (فاطمة) قد فَقدَت قبل أشهر قليلة أعزَّ صديقاتها، وهى الرسامة (محاسن الخطيب)، التي استشهدت بقصف إسرائيلي لمنزلها، ونشرت الصحفية (يسرا عكلوك) رسائلَ صوتية كانت (فاطمة حسونة) قد تحدثت فيها عن صديقتها وفقدها الأليم، وفي كلماتها إحساس بأنها ستلتحق بها.
وكانت جمعية (ACID) للسينما المستقلة، وهى إحدى الفئات الموازية ضمن مهرجان كان السينمائي، قد أعلنت يوم الثلاثاء 15 إبريل ، اختيارها الفيلم لعرضه خلال الحدث السينمائي، وذكر مهرجان كان السينمائي في رسالة لوكالة الصحافة الفرنسية أنه (في اليوم التالي لاختيار الفيلم، قُتلت (فاطمة حسونة) وعدد من أفراد عائلتها جراء صاروخ أصاب منزلهم).
وقال بيان المهرجان إن (فاطمة حسونة) جعلت من مهمتها أن تشهد، من خلال عملها والتزامها، ورغم الأخطار المرتبطة بالحرب في القطاع الفلسطيني، على الحياة اليومية لسكان غزة في عام 2025.
إنها واحدة من كثر وقعوا ضحايا للعنف المستشري في المنطقة منذ أشهر، وأعرب بيان المهرجان عن الصدمة، وقال (يُعرب مهرجان كان السينمائي عن صدمته وحزنه العميق إزاء هذه المأساة التي هزت العالم أجمع).
وقال بينما لا قيمة للفيلم في مواجهة مأساة كهذه، فإن عرض الفيلم في فئة ACID بمهرجان كان في 15 مايو، سيكون، بالإضافة إلى رسالة الفيلم نفسه، وسيلة لتكريم ذكرى الشابة التي وقعت مثل كثيرين غيرها ضحية للحرب).
كما أدانت منظمة (مراسلون بلا حدود) مقتل (فاطمة حسونة)، معربة عن أسفها لأن اسمها (يُضاف إلى ما يناهز 200 صحفي قُتلوا خلال 18 شهرا).

سيرة بطولة ونجاح
كانت (فاطمة) عين غزة إلى العالم، خاصة خلال فترة حصار الشمال قبل اتفاق وقف إطلاق النار، فبقيت صامدة مع عائلتها دون أن تنزح، وشاركت في الحملات التطوعية، وساهمت في أعمال إنسانية، وخُطبت وارتبطت خلال الحرب، لعلها تبدأ حياة جديدة تعوض المآسي التي عاشتها.
لكن صواريخ الاحتلال كانت أسرع من أحلامها في بناء حياة وأسرة، فرحلت، فجر الأربعاء، بقصف منزلها مع جميع أشقائها في حي التفاح شرقي مدينة غزة شمالي القطاع.
ربما منح هذا الاغتيال منح فيلم (فاطمة حسونة) الحياة والزخم والاهتمام، والحرص على مشاهدة ما فيه من توثيق لجرائم الاحتلال فى غزة، حيث تحارب الدبابات والمدرعات وطائرات إف 35، أشباحا وخيالات فى أذهان طياريها.
أولئك الذين يطلقون الصواريخ ويسقطون القنابل الثقيلة على مساكن ومخيمات وتجمعات مدنية فى سياق الخطة الجهنمية الواضحة منذ اليوم الأول لليوم التالى لعملية طوفان الأقصى، فإذا بالطوفان يجتز ويخلع ويزيل الحياة من قطاع غزة، والضفة الغربية أيضا.
اليوم، لم تعد (فاطمة حسونة)، لكن صوتها لم يُغيّب، صورها، كلماتها، قصتها، كلها تصرخ في وجه الصمت الدولي.. أرادت أن يكون موتها مسموعاً، وقد كان.. فربما في ختام هذا الحزن تولد حياة من عدستها، تظل تصرخ: (غزتي بحاجة إلينا جميعاً).
وللحديث بقية..