
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
من قال إن المهرجين لا يبكون؟، من زعم أن من يُضحِك الناس لا يعرف الحزن؟، إن كانت الكوميديا ضحكًا في نظر البعض، فهي في حياة (محمد أبو الحسن) صرخة مكتومة، وابتسامة على وجه مجروح، ونكتة تطفو على جرح لم يُداوَ.
هذا الفنان العظيم لم يكن مجرد (حنفي جوز فوزية)، بل كان ضميرًا شعبيًا يختبئ تحت عباءة الكوميديا، قلبه مشقوق نصفين: نصف يُضحكنا… ونصف ينزف وحده في الظلام.
نعم (محمد أبو الحسن)، هو الذي أضحك أجيالًا كاملة، لكنه لم يبتسم لنفسه طويلًا.
مات هذا الفنان كما عاش: صامتًا، بسيطًا، نقيًا، بلا صخب ولا كاميرات ولا تكريم يليق.
غادر (محمد أبو الحسن) الدنيا كما يغادر الصالحون، الذين لم يعرفوا كيف يساومون أو يتملقون أو (يمشوا جنب الحيط).. كان حائطه هو المسرح، وجمهوره هو سندُه الوحيد.
وُلد (محمد أبو الحسن) عام 1937، وسط زحام الحلم المصري في أحياء القاهرة الشعبية، لأسرة لا تملك إلا الصبر والأمل.
درس الزراعة في جامعة عين شمس، وتخرج مهندسًا زراعيًا سنة 1960، في وقت كان الوطن يحلم بمستقبل (علمي) أكثر من حلمه بالفن، لكنه لم يجد نفسه بين الحقول والجرارات، بل وجدها بين الجُمل والضوء والصمت والضحك.
شق (محمد أبو الحسن) طريقه من التلفزيون المصري، مخرجًا ثم ممثلًا في برامج الأطفال، قبل أن يشعل شرارة حضوره الكبير في قلب الجمهور بدورٍ واحدٍ لا يُنسى في المسرح.

مسرحية (سك على بناتك)
حين شارك في مسرحية (سك على بناتك) إلى جوار الفنان الكبير (فؤاد المهندس)، لم يكن يعرف أن شخصية (حنفي) التي أداها ستخلّد في ذاكرة الناس.. وتطارد مسيرته في الوقت ذاته.
(حنفي جوز فوزية).. الاسم الذي أصبح مرادفًا لـ (محمد أبو الحسن)، لكن رغم النجاح الساحق، كانت مرارة الدور كبيرة، قالها بنفسه في أحد الحوارات: (الدور ده قتلني)!
نعم، قتلته الشهرة التي لا تسمح لك إلا أن تظل كما أحبّك الناس.. حتى وإن أردت أن تنمو وتكسر القالب، بعد (حنفي) ظل المخرجون يرونه في الدور نفسه، فرفض كثيرًا من العروض التي تُعيد تدوير الشخصية، باحثًا عن مساحات حقيقية تُظهر ما بداخله من موهبة.
بل كان فنانًا يمتلك أدوات تمثيلية جبارة، وقدرة على إيصال المعنى بلمحة عين، أو زلة لسان.
ورغم محاصرته في الكوميديا، استطاع أن يلمع في الدراما، في مسلسلات مثل (المال والبنون، الورثة المحترمون، الحلانجي، راجل وست ستات).
وفي السينما، رغم ندرة أدواره، فإن حضوره في أفلام مثل (البرنس، شاويش نص الليل، مجانين على الطريق) ترك بصمة خاصة.
م يكن صوته عاليًا، لكنه كان صادقًا… والصادق يُطبع في الذاكرة.
الوجع الحقيقي بدأ حين تراجعت الأضواء.
لم يعد الهاتف يرن. لم تعد العروض تنهال.

ضربة صحية قاسية
ثم جاءت ضربة صحية قاسية: جلطة دماغية، ثم جراحة معقدة في باريس لتغيير سبعة شرايين بالقلب.
عاد بعدها إلى مصر جسدًا متعبًا، لكن بروح لا تزال تحب الفن.
قالها بمرارة: (أنا مش عايز فلوس… عايز شغل)!
كان يريد فقط أن يقف أمام الكاميرا، ولو لمشهد صغير، ليشعر أنه حيّ.
كتب ذات مرة رسالة مؤثرة للإعلامي معتز الدمرداش، قال فيها: أنا (محمد أبو الحسن)، فنان سابقًا، ومتسول حاليًا!
يا الله.. كم هو قاسٍ هذا السطر، وكم هو عارٌ على الوسط الفني أن ينسى من زرع فيه البهجة.

الفنانة التي لم تنسَ زميلها
وسط هذا الجفاء، لم يسأل عنه أحد إلا (سهير رمزي)، الفنانة التي لم تنسَ زميلها في محنته، فزارته، وسألت عنه، وشدّت على يده.. كانت، وحدها، تعيد إليه بعضًا من ماء حق الزمالة ، وبعضًا من دفء الرفقة.
أما البقية، فانشغلوا بالأضواء، كما يفعل العميان في صالة سينما مغلقة.
في 8 يونيو 2014، سقط الستار الأخير.
رحل (محمد أبو الحسن)، دون ضجة، دون نعي يليق، دون جنازة تليق. كأن الموت خجل من أن يوقظه بوحشية، فحمله بهدوء، وخرج به من الباب الخلفي للحياة.
لكنه لم يرحل من قلوبنا.
لا زلنا نضحك، ونستعيد صوته، ونقول: (فاكر حنفي؟ ياااه… ده كان بيضحكنا من قلبه)!
وما لا يعرفه الناس أن ذلك القلب كان يتقطع بصمت، كل يوم.
هل كان (محمد أبو الحسن) نجمًا؟
نعم، لكنه لم يكن نجم المناسبات ولا السجادة الحمراء.. كان نجم الناس، نجم البيوت البسيطة، والقهاوي، والقلوب التى بتضحك وسط الهم.. نجم لا يلمع، بل يُدفئك.
لم يكن فنان (نِمرة تلاتة) كما وصفه بعض الساخرين، بل كان (نِمرة واحد) في عالم الصدق.. لأنه لم يضحك ليرتفع، بل ضحك ليُخفف عنا، ومات.. واقفًا، كما يموت الكبار.
فهل سيتعلم الفن يومًا كيف يحتضن أبناءه؟.. أم سيظل يُصفق فقط للنجوم بينما يترك من أضاءوا له الطريق في العتمة؟