
المطرب الشعبي الذي اتهم بالجهل دخل تاريخ الفن الشعبي بمصر من أوسع أبوابه!!
بقلم الدكتور: إبراهيم أبو ذكري *
لم أكن يوما ضد أي إبداع شعبي كان أو سرياني بالغناء كما في الرسم السيريالي هذه النوعيات من الفنون التي تراها إنها خارج الصندوق فتكون لها معارضة ممن لا يرون التجديد أو على الأقل نتذوق جماهيريا ثم نصدر الأحكام.
ولم أكن ضمن المعارضين لظهور (شعبان عبد الرحيم) – رحمة الله عليه وهو يضع أسلوبا جديدا على المسامع خارج الصندوق في هذه الحقبة الزمنية في بداية التسعينيات
كان ظهور شعبان في هذه الحقبة من الزمن علامة فارقة بالذوق المصري الذي لم يتغير ولكن مع التكرار على مسامع الجماهير حتى لو كانت موهبة المغني محدودة والظهور بهذه الأغاني وتكرارها يصبح هذا الفن من ثقافته.
وقد أطلق بعض المثقفين في مصر علي هذا النوع من الفن (الغناء السرياني) وهو نوع من أنواع الموسيقى التقليدية التي تعود جذورها إلى الثقافات السريانية في منطقة الشرق الأوسط ويُعتبر جزءًا من التراث الثقافي السرياني ويعكس تاريخهم ولغتهم وعاداتهم وتتنوع موضوعات الأغاني.
حيث تتناول الحب، والدين، والحنين، والذكريات والتراث وتُستخدم آلات تقليدية مثل العود، والناي، والطبلة، مما يضيف طابعًا خاصًا للموسيقى ويُعتبر جزءًا أساسيًا من المناسبات الاجتماعية والدينية، حيث يُستخدم في الأعياد والمناسبات الثقافية ويعكس التقاليد والممارسات الاجتماعية ويُعتبر وسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس بسهولة وارتجال .
فما حدث معي ومع (شعبان عبد الرحيم) يعتبر جزءً هام من سيرته الذاتية ويبرهن على دعمي لكل الفنون وحجر زاوية في طريق نجومية شعبان عبد الرحيم والتي لا يعلم عنها أحد الي الآن.

المغني المغمور (شعبان عبد الرحيم)
(شعبان عبد الرحيم) في بداية حياته هاجمته الصحف اليومية بعنف وتعددت الأقلام باتهامه بتخريب الفن.. وهذا معروف للجميع، وكانت الأقلام الشرسة كالخناجر في تمزيق جسد ومشاعر المغني المغمور (شعبان عبد الرحيم) والإطاحة به، بل شعر البعض أن هناك مطالب بسجنه ومعاقبته على الانحطاط الذي تحتويه الأغاني التي يغني بها وانتشر من خلالها.
كان حال الهجوم الصحفي ضد (شعبان) هى نفس الثورة التي تكتب عند ظهور أية ظاهرة شعبية جديدة.. وفعلا منع من الغناء نتيجة هذه الحملة.. بل تعرض للمسائلة القانونية أكثر من مرة.
ظهر (شعبان عبد الرحيم) بالثمانيات بخطوات بطيئة فترة طويلة وبداية التسعينيات أصبح ظهوره مكثفا بالأفراح والمناسبات والأعياد بالأحياء الشعبية بأغاني أطلق عليها أغاني هابطة من نوعية ما أطلق عليها هذه الأيام أغاني مهرجانات أغاني غير مفهومة.
مستخدم بها مصطلحات مهنية أو كلمات مشهورة متركبة على بعض بإيقاعات راقصة وكأن هناك شخص سكران يهذي بكلمات غير مفهومه.. ولم تخلو الشوادر الشعبية من هذه النوعية من الأغاني التي كانت تجلجل بهذا الرتم وهذه النغمات وبهذه الكلمات مع لحن ثابت ومستخدم فيها مفردات غريبة في أغانيه..
وانتشرت أغاني (شعبان عبد الرحيم) الهابطة عن طريق تسجيلات غير شرعية كاسيتات صوت.. وغير مصرح بها من الرقابة.. ولكنها كانت متداولة مما عرضه للمسائلات القانونية أكثر من مرة.. وكان رئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية في هذا التوقيت هو المرحوم (حمدي سرور).. الذي وقع تحت الضغط الصحفي في هذا التوقيت
وتحديدا عام 1992 وهو من أصحاب القرار بمنعه من الغناء وحجب التصاريح عنه، ومع التجهيز للدورة الأولي لمهرجان القاهرة للتليفزيون بداية التسعينيات وتحديدا 1993 ولم أكن قد تعرفت علي حمدي (سرور).
وتم ترشيحه من قبل صفوت بك الشريف وزير الإعلام، ليكون عضوا باللجنة العليا للمهرجان الذي كنت أنا الدينامو لهذه اللجنة ومؤسسها وهمزة الوصل بيني وبين صفوت بك الشريف واصحاب القرار في ماسبيرو..
وفي هذا التاريخ نشأت صداقة قوية بيني وبين (حمدي سرور) وظهرنا معا بالمجتمع المدني وبعيدا عن اجتماعات ماسبيرو أكثر من مرة وفي أكثر من مجتمع ظهرنا فيه سويا.. وكان رحمة الله عليه صديقا عزيزا.


(علي حميدة) وحميد الشاعري
وبدون مقدمات ودون سابق معرفه أيضا.. اتصل بي الفنان (علي حميدة) يطلب موعد للمقابلة هو والفنان حميد الشاعري، وكانا يعلما مدي صداقتي برئيس الرقابة على المصنفات الفنية (حمدي سرور).
وحضرا إلى منزلي وطلبا مني التوسط عند مدير الرقابة رفع الظلم عن مغني شاب يغني أغاني شعبية أسمه (قاسم) وأطلق على نفسه (شعبان عبد الرحيم) لأنه كان متفائلا بهذا الشهر لولادته في هذا الشهر الكريم كما أخبرته أمه.. وطلبا مني أن التقي به قبل التوسط له.
وحضر (شعبان عبد الرحيم) صباح اليوم التالي بالمكتب بصحبة (حميد الشاعري وعلي حميدة)، وسمعت منه أجزاء من أغاني لم تكن متداولة، وكانت جديدة جدًا على مسمعي لكنها أسعدت قلبي وبهرت بالطريقة العفوية التي غني بها وأحبها بعد ذلك جمهوره
وفي اليوم المحدد للقاء الأسبوعي للصالون الفني الثقافي والذي كان يعقد أسبوعيا لدي في الفيلا الخاصة بي، والتي كنا نطلق عليها (قهوة كركور) إسم الدلع لآخر عنقود أولادي كريم، ودعوت شعبان على حفل عشاء احتفالا بانتهاء تصوير فيلم (ضد الحكومة).
وتم دعوة عدد من النجوم وكبار الكتاب والصحفيين أصدقائي وأصدقاء شقيقي وجيه أبو ذكري مؤلف قصة (ضد الحكومة)، وكان من ضمن المدعوين من الرموز المصرية رئيس الرقابة على المصنفات الفنية (حمدي سرور)
كانت مفاجأة لشعبان عبد الرحيم بفرقة المكونة من ستة أفراد وأيضا كانت مفاجأة للمرحوم (حمدي سرور) مدير الرقابة والحاضرين من ضيوفي.. وهم جميعا يعلمون موقف الرأي العام من هذا المغني الشاب (شعبان عبد الرحيم) حديث المدينة والمثقفين، وكانت هذه أول مواجهة مباشرة لشعبان مع مثقفين من العيار الثقيل بمصر، وأيضا كانت مواجهة محاكمة مع معظم هذه النوعية من الأغاني.
وأمام وبحضور الكتاب الذين هاجموه وانتقدوا أغانيه وأصحاب القرار في منعه من الغناء ورفضهم التصديق والتصريح له بالأغاني التي طلب التصريح بها غني (شعبان عبد الرحيم) مع فرقته جميع الأغاني الذي هوجم واشتهر بها وسط ضحك وملاحظات المتواجدين له على الكلمات (كوز المحبة انخرم اديله بنطة لحام).

موافقة رئيس الرقابة
لم يحزن (شعبان عبد الرحيم) عما تلقاه من سخرية من بعض الحاضرين بل كان رد فعله بمقوله قالها بغصة شديدة أنتم مثقفون مصر أكتبوا لي ما تريدونه وأنا أقوله وأغني به، وأنا الآن أغني على ذوق العمال والصنايعية وأمنيتي أغني للجميع بكلام يفهمه الصنايعية ورجال الجامعة.. ومع استمرار السهرة وطلب الحاضرين بعض الاغاني المشهورة لمطربين مشاهير بصوت (شعبان عبد الرحيم).
نال (شعبان عبد الرحيم) إعجاب الجميع، ونال الموافقة بعد حوار وإصرار الجميع على تزكيته عند رئيس الرقابة للموافقة على التصريح لأغاني ألبومه الأول..
وتمر السنوات ويتألق (شعبان عبد الرحيم)، ويكون نجم الأغاني الشعبية الوحيد على الساحة المصرية والعربية وأهم نمرة تشارك في أفراح مصر.. وكان للحصول على وقت منه وحجزه لإحياء مناسبة كانت تحتاج إلى وقت طويل مسبق.. لأنه أصبح علامة مبهجة في الأفراح والليالي الملاح.
وحان وقت الترتيب لزفاف ابنتي (ميريت) والتي أصرت على وجود النجم المتفرد (شعبان عبد الرحيم) مهما كلفها من أموال، فقد كان في عز مجده وضرورة وجوده كان حتميا كأحد المشاركين في أحياء حفل زفافها.
وبحثت عنه لأن هذه الفترة كانت فترة الاعتزال والاعتكاف بعد الحرب التي تلقيتها من ماسبيرو بعد أن تم الاستيلاء على مهرجان التلفزيون مني، فكنت شبه مبتعد عن الحياة والفن في مصر لسنوات.
المهم ونتيجة إلحاح ابنتي علي مشاركة (شعبان عبد الرحيم) خلال زفافها وأقرب موعد هذه الاحتفالية بحثت عنه وعرفت أنه مشارك في مسرحية مع (سمير غانم) من انتاج (أحمد الإبياري)، وعلي الرغم من صداقتي لأحمد الإبياري لكن كان (سيد زيان) الأقرب إليه وأعرف أنه له دلال عل (شعبان عبد الرحيم) فكلمت سيد زيان وبدوره كلم أحمد الإبياري وأنا معه.
وتحدثت مع أحمد الإبياري على أن يتفق معه على الأجر والترتيبات مع الفرقة.. ولم تمر إلا ساعات وأتصل بي الإبياري يخبرني بأن (شعبان عبد الرحيم) سيحضر بفرقته مجاملة لزفاف (ميريت) وسرد له حكايته معي والحفلة الأخيرة له مع رموز مصر من الصحفيين والكتاب والمنتجين، وموقف المرحوم حمدي سرور منه، وكيف تم رفع اسمه من الممنوعين من الغناء.
ولم يطلب سوي موعد الزفاف.. وجاء بالفرقة ليشارك مع عدد من المطربين التي جاملت أيضًا هذا الزفاف وعلى رأسهم فرقة سمير صبري – رحمة الله عليه، الذي جاء مجاملة نتيجة صداقتي معه منذ بداية الثمانيات بمدينة الكويت سيكون لها مكان آخر في البوم ذكرياتي نتحدث عنه بالتفصيل!!

كان حافظا للجميل
(شعبان عبد الرحيم) – رحمة الله عليه كان حافظا للجميل.. ودودا.. طيب القلب.. أحب الكل حتى من أساء إليه.
الجميل في الذكري مشاركة (شعبولا) مع سيد زيان (دويتو) بأغنية من أجمل ما سمع المدعوين.. رحمة الله عليهما الاثنين.. فكانا من أعز الناس عندي..!!
المقصود من كتابة هذا الكلام اليوم هو عظمة الموقف من حضور (شعبان عبد الرحيم) مجاملة لرد جميل له قديم.. كان قد دخل في زوايا النسيان خاصة أن شعبان كان (تريند) كما يقولون بلغة هذه الأيام لدي الجميع.. وموقف عفي عليه الزمن.. لكنه لم ينساه على الرغم من مرور سنوات وسنوات طويلة لم نلتقي معا خلال هذه السنين أبداً ولو بالصدفة..!!
هذا هو (شعبان عبد الرحيم) الذي اتهم بالجهل تركنا بعد أن كان له تاثير وردود فعل في كل الأحداث الدائرة حوله بالمجتمع الذي كان جزءا أصيلا منه، ولم تكن أغانيه هابطة بل هي مدرسة لفن انفرد به وحده وأصبح من جزء مهما في تاريخ الأغنية الشعبية بعد أن بصم بصمته للتاريخ.
لأنها علي الرغم من بساطة كلماتها ولحنها الثابت لكنها كانت تحمل قيما أخلاقية محترمة وتحمل بين مفرداتها البسيطة مواقف إيجابيه عظيمة، وأسهمت هذه الأغاني بايقاعها الثابت الكثير من الإصلاحات المجتمعية.. بل تخطت ذلك فلمست مواقف سياسية عليا.
كان رحمة الله عليه حافظا للجميل.. وفيًا لأصدقائه.. محبًا لأهلة وكل من حوله.. كريماً.. عطاءً بلا حساب.. أعطاه الله من حيث لا يعلم.. وفتح عليه بنعمته لأخلاقه النادرة.. رحمة الله علي ابن البلد الأصيل (شعبان عبد الرحيم).
ورحمة الله على (سيد زيان).. وكم أحببتهما لرفقة العمر وصداقة التي تعدت الأخوة بمراحل.
* رئيس اتحاد المنتجين العرب