رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب: دموع المسرح على (نبيل الحلفاوي)

مضى عمره كله وهو شامخ و كأنه (عامود) في معبد مصري قديم ومهيب

بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد

مظاهرة ضخمة من الحب غطت وسائل التواصل الاجتماعى عندما انتشر خبر مرض الفنان القدير (نبيل الحلفاوي)، فالرجل برغم قلة أعماله الفنية استطاع التواجد في أذهان الناس وامتلاك قلوبهم بطلته المميزة والتي لا تنسى في تلك الأعمال، إلى جانب أنه ترند شبه دائم على منصة (X) أو تويتر سابقا بآرائه السديدة وتحليلاته الهادئة.

سواء في السياسة أو الاجتماع أو حتى الكرة التي يدفع فيها التعصب إلى التنابز وتبادل الاهانات، ولكن (نبيل الحلفاوي) – برغم انتمائه الكروى الواضح الذى لا يخفيه – استطاع اكتساب احترام الجميع و فرض حتى على معدومى الاخلاق ان يتعاملوا معه باحترام.

و ظل صديقا لكل الأعمار بما فيهم جيل جديد لم يتعود على قيم احترام الكبير وسقطت عنده أعراف كثيرة ولا يعترف بعادات و تقاليد الماضي.

ولم يكتسب (نبيل الحلفاوي) هذه المكانة من فراغ، فإذا اردنا أن نصفه بأقل الكلمات وأصدقها ، فهو (الخط المستقيم) الذى لا يعرف (اللف أو الدوران)، بل يتجه من أقصر الطرق وأوضحها إلى هدفه، لا يعرف التحايل أو الألآعيب أو فنون المكر بل يصارح و يواجه و كأنه سهم انطلق و لا تستطيع تغيير مساره.

فلقد كان (نبيل الحلفاوي) طوال عمره صريحا دون أن يجرح، واضحا دون أن يسبب ألما، معتزا برأيه مدافعا عنه من غير تعصب، يزن الكلمة قبل أن ينطقها ويفكر في أفعاله قبل أن يرتكبها.

ولذا مضى عمره كله وهو شامخ و كأنه (عامود) في معبد مصري قديم ومهيب، منقوش عليه كلمات قليلة لكنها تحمل كل المعانى الطيبة: الأخلاق، الاجتهاد، الإخلاص، الصدق.

وعندما جاء القدر المحتوم اتشحت وسائل التواصل الاجتماعى بالسواد حزنا و تحولت إلى سرادق مهيب للعزاء

عندما جاء القدر المحتوم

وخلال فترة المرض كانت غالبية الناس – و أنا منهم – تظن أن (نبيل الحلفاوي) قادر على هزيمة المرض، فكيف لا وهو المحب للحياة وصاحب الإرادة القوية والتي برغم المرض ظل مبتسما، فظننا أن الابتسام تعبير عن اطمئنان  بأن المرض لن يهزمه وأن تمسكه بالحياة سيفوق كل شيئ.

ولكن لم تكن تلك الأغلبية تعرف طبيعة المرض ومدى انتشاره وعنفه وقسوته، ومن اين نعرف وصاحبه لا يتكلم ولا يشكو؟

وعندما جاء القدر المحتوم اتشحت وسائل التواصل الاجتماعى بالسواد حزنا و تحولت إلى سرادق مهيب للعزاء، و بادر أحد الأصدقاء بنشر قصيدة كتبها (الحلفاوي) منذ عشرات السنين يكتب فيها نعيه – فقد كان شاعرا يكتب أحيانا بالفصحى أو بالعامية وله ديوان منشور في نهاية الثمانينات – و انتشرت القصيدة.

واتضح أن لها تسجيل مرئى في لقاء من اللقاءات النادرة في حياة (نبيل الحلفاوي)، الذى كان يرفض الظهور في البرامج التليفزيونية، ولكن لصداقته القوية مع المذيع اللامع (محمود سعد) وافق على إجراء ذلك اللقاء.

 لفتت نظرى القصيدة بشدة والتي يبدأها بقوله:

(ف نعيى ماتكتبوش

أسامى القرايب

ف نعيى لازم تنكتب

أسامى الصحاب

وصيغة الكلام

بدون النظام

وحسب الميزان

مش حسب المحبة

حتبقى كده :

صديق كل من ..)

ويبدأ (نبيل الحلفاوي) في ذكر الأصحاب والأصدقاء منهم زملاء دفعته مثل (لينين الرملى وهادى الجيار ومحمد صبحى و لطفى لبيب وشعبان حسين)، ومنهم نجوم عاصرهم وأحبهم  مثل (نور الشريف وصلاح السعدنى ويحيي الفخرانى وعبد الرحمن أبو زهرة ومحمد وفيق و عبد الله فرغلى).

و منهم مخرجون كبار مثل (إبراهيم الصحن ومحمد شاكر وجلال غنيم وسعد اردش وهانى مطاوع)، وكتاب كبار مثل (بهاء طاهر)، وكتاب سيناريو متميزون مثل (أسامة أنور عكاشة وعبد الحى أديب ومحسن زايد).

حمدي غيث
عبد الله غيث

الأخوين (حمدى وعبد الله غيث)

وهناك إشارة واضحة للأخوين (حمدى غيث) الذى كان أستاذا للحلفاوى ويفخر بصداقته، و(عبد الله غيث) عملاق التمثيل.

مجموعة من الكبار مختلفى الأفكار وطرق الحياة، ولا يمكن أن يتواجدوا في قلب رجل واحد إلا لو كان (نبيل الحلفاوي) بكل صدقه وتواضعه وإنكاره للذات والاخلاص للأصدقاء.

و لكن أكثر ما لفت نظرى في القصيدة أمرين:

الأول أن معظم من فيها غادرونا، ولم يبق سوى قلائل عددهم أقل من عدد أصابع اليد الواحدة ، و الثانى أنهم كانوا شوامخ في مجالهم المهنى و على المستوى الشخصى.

وهنا بدأت فكرة تسلل لى عقلى ، فهذه القصيدة  تجمع اجيالا ساهمت في بناء مرحلة (مجد قوانا الناعمة)، وكانت أعمدة للفن المصرى الذى انتشر وساد وازدهر معهم وبهم، ولكن غالبيتهم غادروا، ومع مغادرتهم انتهت تلك المرحلة، فهل يغادرنا (نبيل الحلفاوي) حزنا عليها؟

هل توقفت الرغبة في الحياة وضعفت الإرادة عند (نبيل الحلفاوي) بسبب فقد الصحاب الذين كانوا يحتلون القمة وبسبب ضعف قوانا الناعمة؟

قصيدة أخرى للحلفاوى اسمها (دموع المسرح) يقول فيها على لسان المسرح:

ها أنذا

أقبع وحدى

مهجورا

منك ومن كل الأبناء

أنتظر الموت

لا أملك إلا الذكرى

ذكرى أيام حلوه

وأنت بحضنى

آه ياولدی

كم أفتقدك

لكن العصر حقير

أخذك منى

واغتال الأيام الحلوه

أقبع وحدى

لا أملك إلا الذكرى

والمر بحلقي

فهل.. تذکرنی؟

مشهد من مسرحية (إضحك لما تموت)

مسرحية (اضحك لما تموت)

وأخذت الفكرة تسيطر على عقلى أكثر بعد قراءة تلك القصيدة، فأثناء تدريبات مسرحية (اضحك لما تموت) عام 2018 – آخر ما قدمه (نبيل الحلفاوي) للمسرح القومى – كانت المناقشات بيننا لا تنتهى حول النص و الشخصية، والحوارات تمتد الى الحياة  الفن والمسرح.

وكنت ألحظ كثيرا من الأسى في حديثه عن أحوال المسرح، فهل هذا ألم مضاف الى ألم المرض و فراق الأحباء؟

فجأة تنبهت إلى أن معظم أصدقاء (نبيل الحلفاوي) الذين غادرونا كانوا في الثمانينات يلتقون في حديقة المسرح العائم بشكل يومي، حيث يجتمعون في حلقات حول مناضد الكافيتريا في تلك الحديقة، حتى أن البعض أطلق عليهم (شلة العايم).

و تصادف مع مرض (نبيل الحلفاوي) الإعلان عن هدم المسرح العائم، هاهو أحد الأماكن التي أحبها وله ذكريات كثيرة فيها تمتد لها يد الهدم، لتتقلص أكثر قوانا الناعمة و تفقد جزءا من بنيتها الأساسية.

إذن لقد غادرنا البشر وانتهت المرحلة وانهار المكان، وأمام هذا التجريف القاسى لم يبق للحلفاوى ما يتمسك به، فاستسلم..

استمسكت بإيمانى بأنه (لكل أجل كتاب) و قرأت الفاتحة على روح الفارس النبيل!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.