بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله
في زقاق ضيق من حي المغربلين بالدرب الأحمر، كان (محمود المليجي) طفلا يلهو مع أقرانه في الحواري، عيناه تلمعان بفضول خاص، كأنه يرصد ما حوله بحساب، يتأمل حركات الناس، ملامحهم، نظرات الغضب والخوف والحب.
لم يكن (محمود المليجي) آنذاك يعرف أن هذا (الرصد) الصامت سيُغذّيه طوال عمره، وأن كل شخصية شريرة، مظلومة، أو حتى صامتة لاحقًا، ستكون انعكاسًا لوجهٍ مرّ أمامه في تلك الحارة القديمة.
ولد (محمود المليجي) عام 1910 في بيئة شعبية لم تتخلَّ عن قسوتها ولا دفئها، فقد كان يرى فيها كل وجوه مصر.. (إن أردت فهم البشر، تأمل أحياءهم الشعبية).
ربما أدرك (محمود المليجي) هذه الحقيقة بالفطرة، وربما هى من قادته لاحقًا ليصبح أشهر شريرعلى الشاشة، وأحبهم على الإطلاق.
من المسرح إلى الشاشة الكبيرة
تسلل (محمود المليجي) إلى المسرح كمن يبحث عن ذاته، فانضم إلى (فرقة يوسف وهبي)، رجل المسرح الحديدي الذي لم يكن يقبل بالمواهب الضعيفة.
كان المسرح (مدرسة الصبر)، حيث كل حركة محسوبة، وكل كلمة تتطلب إحساسًا كالنصل.
من تلك الخشبة التي ارتجفت تحت أقدام عظماء الفن، خرج (محمود المليجي) مؤمنًا أن (التمثيل ليس مجرد وقوف أمام الكاميرا؛ إنه إعادة خلق الإنسان).
أدرك (يوسف وهبي) عبقرية الشاب، ولكن الطريق لم يكن معبّدًا بالورود.
كان السينمائيون يبحثون عن وجوه جميلة؛ أما (محمود المليجي) ذو الملامح الحادة والعيون الغائرة فلم يُمثّل الصورة التقليدية للبطل.
لكن السينما سرعان ما اكتشفت أن (محمود المليجي) لا يحتاج إلى ملامح (وسيمة)، بل إلى دورٍ يُطلق موهبته.. وهكذا بدأ في أدوار صغيرة، وشيئًا فشيئًا تملّك الشاشة.
كان يُقال عنه: (يخيفك وأنت تحبه) هذا هو (محمود المليجي)؛ الشرير الذي لم يكن يومًا شريرًا بالمعنى البسيط للكلمة.
فن الشر وتعقيداته
في إحدى مقابلاته النادرة، وصف (محمود المليجي) نفسه بـ (المجرم بالسليقة)، وكأنما يختصر فنًا بديعًا لا يُفسّر.. إن أدواره لم تكن مجرد استعراض للشرّ، بل كشف عميق للنفس البشرية.
كان يعي تمامًا أن داخل كل شرير روحًا مرهقة، عُذبت طويلًا حتى انحرفت عن مسارها..بل كان يُجسد الشر بعيون حزينة، ونظرات غارقة في الأسى.
لم يكن (عطية الحنش) في (أبو حديد) مجرد بلطجي، بل رجلًا أكلته الحياة حتى صار حادًا كالسيف.
لم يكن (إبليس) في (موعد مع إبليس) مجرد رمز للشر، بل (خالقًا) متكبرًا يرى الشر صنعةً وفنًا، ويريد أن يثبت تفوقه على الإنسان.
حتى أدواره التي بدت تقليدية كانت تحمل ظلالًا من العمق. كل كلمة، كل نظرة، كانت محسوبة.
مشهد لا يُنسى: (موعد مع إبليس)
في المشهد الشهير من فيلم (موعد مع إبليس)، يجلس الدكتور رجب (زكي رستم) في سيارته، محاصرًا بين الفقر والضياع.
فجأة يظهر إبليس (محمود المليجي) بجوار المقعد الخلفي.
كان ظهور (محمود المليجي) هادئًا كالريح، مخيفًا كظل الليل.
(الحق عليّ يعني، علشان جاي أساعدك؟)، قالها ببرود عميق، ونبرة مشحونة بالغرابة.
في هذا الحوار الممتد بين (الدكتور وإبليس)، لم يكن (محمود المليجي) مجرد شرير.. لقد كان يجسد فلسفة كاملة للشرّ؛ الشر الذي يتلبس المنطق، ويتكلم لغة البشر.
في كل نظرة، في كل ضحكة مكتومة، كان (محمود المليجي) يُرسخ صورة إبليس كأذكى المخلوقات، لا كوحش دموي.
هذا المشهد كان درسًا في الأداء التمثيلي.. لا حاجة للصراخ أو الحركات المبالغة.
الشر عند المليجي هادئ، لكنه ينخر في الأعماق.
(الأرض).. ملحمة الإنسان المصري
لعل واحدًا من أعظم أدوار (محمود المليجي) هو دور (محمد أبو سويلم) في فيلم (الأرض – 1970) للمخرج يوسف شاهين.
هنا، تخلى محمود عن عباءة الشرير، وارتدى ثوب الفلاح المكافح.. كان (أبو سويلم) رمزًا للأرض التي لا تترك أبناءها، والأب الذي يُحارب حتى آخر رمق.
مشهد النهاية، عندما يُجرّ (أبو سويلم) على الأرض وهو يصرخ: (الأرض.. الأرض!).. هو من أكثر المشاهد تأثيرًا في تاريخ السينما المصرية.
في هذا المشهد، لم يكن محمود المليجي يمثل.. كان يبكي الأرض حقًا، كما لو أن جذور حياته تمتد إلى كل حبة تراب.
هذا الدور كشف عن وجه آخر للمليجي: الإنسان الذي يتقن أداء الطيب بقدر إتقانه للشرير.
وداع على خشبة الحياة
حتى لحظة رحيله، كان محمود المليجي يعيش للفن.. ففي عام 1983، وبينما كان يُصور فيلم (أيوب) مع (عمر الشريف)، جلس (محمود المليجي) في الاستراحة يحتسي قهوته.
(الدنيا غريبة أوي، الواحد ينام ويصحى.. وينام ويصحى.. وينام ويشخر!).. قالها ضاحكًا، ثم صمت إلى الأبد.
اختار الموت لحظة عادية، كأنه مشهد أخير في فيلم طويل.
هل كان يدرك أن الحياة نفسها خشبة مسرح؟ وأن دوره فيها قد انتهى؟
على مدار أكثر من نصف قرن، قدم (محمود المليجي) ما يزيد عن 500 عمل، بين السينما والمسرح والتلفزيون.. أدواره كانت أشبه بمرآة عاكسة لتعقيدات النفس البشرية، خاصة الجانب المظلم منها.