بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
أثناء تجوالى في ساحة معتقل (طرة) يقابلنى أحد المحسوبين على التيار الإسلامي.. يبادرني بعتاب حاد لأنه علم أنى أزور (الهضيبى) في مرضه.. فالهضيبى من وجهة نظره كافر.. و يسوق من الأدلة و البراهين من القرآن والسنة سوقا ناعما أحيانا وملوي العنق أحايين لينتهى الأمر بأنه الحق المطلق.
ولا سبيل إلى التشكيك في قوله وحكمه.. وبمجرد أن أغادره يلحق بى آخر كان يراقب لقائى بهذا الأخ ليعاتبنى على مخالطتى لهذا الأخ الكافر.. ويسوق من الأدلة ما هو أقوى و من البراهين ما هو موقع بتوقيعات سماوية و نبوية باللغة العربية الفصحى وتعطيش الجيم فلا تملك أن تفتح فمك أمامها باعتراض أو إنكار..
في كل حنبات (طرة) تراهم.. و إن لم تراهم سيرونك.. ويلاحقونك .
مجاميع ضخمة من (المكفراتية).. يكفرون كل شخص.. وكل مذهب يغاير مذهب كل منهم ..
يرفضون الصلاة جماعة وراء هذا الإمام لأنه على مذهب آخر ومكفر لديهم .. يرفضون إلقاء السلام أو رده – حتى ولو لم يكن بأحسن منه – على شخص آخر لأنه في مذهبهم كافر.. يرفضون استلام رواتبهم من الحكومة لأنها في مذهبهم حكومة كافرة..
كنت أتعجب لكون هذه العقليات المسيرة أصحابها ما بين أساتذة بالجامعات المختلفة وأصحاب مناصب علمية وإدارية عليا في مختلف المجالات.. و قد اختص كل مذهب بصحيح الإسلام دونا عن غيره..
حتى أن (شكرى مصطفى) كان يطلق على زنزانته (سفينة الناجين).. و ذهبت المغالاة ببعضهم أن صاغوا من الأذان ما يختلف عن المعهود أو عن أذان المذاهب الأخرى.. بالمناسبة فقد كانت هذه المرة الأولى لشكرى مصطفى في المعتقلات.. حيث كان متعاطفا مع الاخوان المسلمين..
تكفير الحكومة وجاهلية المجتمع
وقد استمر في معتقل (طرة) حتى تم الافراج عنه معهم بعد وفاة عبد الناصر.. لكن ما لاقاه من تعذيب في هذه الفترة جعل من هذه التجربة رحما لولادة أفكاره الجديدة التي كان محورها تكفير الحكومة وجاهلية المجتمع.
والتي أنشا على أساسها جماعة التكفير و الهجرة التي كان معظم أفرادها ممن شاركوه المعتقل وتعذيبه والتي انتهت عام 1977 بخطفهم وقتلهم للشيخ الذهبى وزير الأوقاف..
استيقظت فجرا عديدا على عقيرة تعلو بصياح هائل الشماتة والتشفى مرددا (في الصبح وقبل الأسحار.. خدعوه وسرقوا الرادار).. كان ذلك بعد أن تردد في السماعات الكبرى التي تبث بعضا من برامج الإذاعة نبأ سرقة الرادار المصرى من رأس غارب..
حيث تمكنت ثلاثة طائرات هليكوبتر مع 66 من الجنود الإسرائيليين من تفكيك الرادار الروسى الضخم وربطه إلى الهليكوبتر والطيران به على ارتفاع منخفض..عابرين به قناة السويس..عائدين بغنيمتهم إلى صفوف قيادتهم ..
أعرفكم الآن بعم عفيفى.. يعمل ساعاتى .. كان شغله الشاغل تسجيل أرقام القطارات التي تمر وتذيل كل رقم بموعد ذهابه و إيابه.. يتمدد نائما على جانبه أمام الدكتور (صفوت عبد الغني) من أجل تدليك البروستاتا المتضخمة إلى حد كبير مما يسبب له احتباسا في البول ..
والدكتور (صفوت).. كان أستاذا بالقصر العينى .. أبلغ عنه أحد الزملاء بأنه يتكلم مع طلبته في السياسة.. بعدها أحضروه مكبلا إلى (طرة).. وحينما كنا نذهب كل 6 أشهر إلى المحكمة كى يفرج عنا القاضي – كونه لم تثبت علينا تهمة وكوننا حصلنا مسبقا على البراءة.
كان الدكتور (صفوت) يصر على الذهاب معنا إلى المحكمة مرتديا البيجامة البيتى ليصيح محتجا أمام القاضي: شوف يا حضرة القاضي عبد الناصر بيعمل ايه في أساتذة الجامعة .
ولم يكن للقاضى أن (يشوف .. ولم يكن للدكتور صفوت إلا أن يعود ببيجامته وفي جيبها الممزق و أزرارها المفقودة المزيد من إهانة الحراس ورفض القاضي لتظلمه..
فى دورة المياه تهاجمنى فرقعات الغازات المرتفعه منطلقة من بطون الإخوان المسلمين.. كانوا يضعون همهم في الطعام، وقد حولوا كميات كبيره من العسل الأسود الذي يأتي لنا من سجن مزرعة (طرة) إلى مفتقه لكل دوره مياه بطانيه معلقة بديلا عن الباب..
لابد أن تقف أمام البطانيه الأولى وتنادى بصوت عالي (واحد).. فإذا كان هناك معتقل بالداخل يقول (إحم) بصوت مرتفع أيضا.. لتنتقل إلي دورة المياه الثانية.. نقول (اثنين) إن لم يرد أحد نقوم برفع البطانيه وأداء الواجب..
بليغ حمدي وعفاف راضي
وضعت فوطة دائمة على بطانية دورة المياه الأخيرة حتي يظن الجميع أنها مشغوله..وأخبئ كل الأوراق التي أكتبها شعرا في البطانيه من الأسفل..
في احدى السهرات التليفزيونية تابعت الملحن (بليغ حمدي) وهو يملأ الشاشة بدخان سيجارته ويعلن عن اكتشافه الجديد.. طالبة الكونسرتفوار (عفاف راضي).. لتفاجئنى بصوتها وإحساسها البالغ أثناء أدائها لأغنية (ردوا السلام) ..
تعلقت جدا بهذا الصوت الجديد والمتميز في جوانب عدة.. تمنيت أن أقابلها في يوم من الأيام القادمة إذا ما قدر لى الخروج من هذا القبو الضخم ..
و..
كتابة الأشعار
يـا مــيـــت نــــدامـــة.. عـــلـيـكــى يــا حـدايّـــهة
دايـــســة الــدوايّـــة.. عـشـان مــا نــقـدر نـكتب
والله.. لُـــولا الـــســجــــدة.. لُـــــولا الآيـــــــــة
كـــنـــا فـــى يـــوم.. هـانــصــدق اللــى بـيــكدب
………………………………………………..
فــــى الـمـعـتـقـل.. إزاى هــانــنــسـى جـراحِـــك
وانــتــى الـحـبـيـبـة الأم.. وانــتــى ضــنــانــــــا
يـــا اللـــى مـــازال فــى الــقــلـب نـايـمـة رماحك
يـــا ســاكــنــة رغـــم اللــى حــصــل.. جـــوانـــا
………………………………………………..
أنـــا بـــاكــتـبـك .. رغـــــم الـــوجــع والـتـوهـــهة
مـــش هــاشــطـبـك .. أبـــــدا.. ولا هــانــسـاكـي
أنـــا قــلــت يــامــا عــلـيـكـي .. أغــلــى إلــهـــــة
وكــتــبــت ألــف ديـــوان يـــا أمـــي عـــلــيـكـــي
………………………………………………..
يـــا حــــرقـــتــي.. جــــوه ســجــونــك يــا امـه
والــكــل خـــايـــف مــنـــي.. بـــره ســجــونـــك
أخـــرس مـــعــانـــا.. أيـــوه أطــرش.. أعـمــى
إنــتــى سـجـنـتـي الــشـعــب.. جــوه جــنــونـــك
………………………………………………..
(قراقـوش).. ما زال ع الكرسي.. داس قراقوشك
عــلـــى قـــلــبــي.. آه يـــا قــلـبـي.. سيبك منها
فــى الـنـهـر.. غـــرقـت مــركــبــي بــقــروشــك
وقــالــولــي إن الــخـــوف خـــلاص جَـنِـنْــهــــا
………………………………………………..
إزاى هـــاخـــاف م الـــســجــن يــا سـاجـنـانـي
مـــع نـــاس مــاهـش فاهماني.. قلبي رافضهم
لا شــيــوعـي ريَّــح قــلــبــي.. لا إخــــوانــــي
ولا إيــــدي قــــدرت لـحـظـة تــحـضـن إيـدهــم
………………………………………………..
قــاعـــد.. (صـــلاح عــيـسـى) بـيكتب عنك
ع الأرض.. فــايــض لــسـه نــص سـيــجــارة
كـــل اللــى دوســتــي عــلــيـه بــيـعـزف لـحنك
وبــيــطــفــي نــــوره مــــن بـــدايــة الــغـــارة
………………………………………………..
هـــاكــتــب بــــدم عــيـــونـــي عــــن زنــازينك
عـــن رمــيـتـك لـــــىّ وقــــســـــوة روحـــــــك
ســلـمـتـي للــقـــواد يـــــا أمــــى خـــزيـــنـــــك
وحـــرمــتــى مـــن طــعــم الطــبيـخ مـجـروحـك
………………………………………………..
يــا قِــبــلــتـي.. أيـــوه هــاصــلــي عــشــانــــك
واطــلـــب مــن (الــمـولــى الـمجير) يشفيكي
يــعـطــف عــلـــىّ.. يِــِشَّــــل إيــــد ســجــانــــك
مـــن دمـــىي.. لــو نــاويّــة عــبـور.. يـسـقيكي
………………………………………………..
أوراقــــي يـــا أوراقـــي.. كـــونـــي جــنـاحــي
وخـــديــنــي للـــدنــيــا اللـــي بـــره عــيــونـــي
لــســه الــقــلــم.. والــحـبـر.. هــمـا ســلاحــي
مـــع انــهــم هــمــا اللــي لــيـهـا جـــــابـــونــي
………………………………………………..
يا حرقة (المقبوض عليه) فى الزحمة
يا فرحته بيكي.. حرامي الحلة
لا (إنسانية) مع الحبيب.. ولا (رحمة)
ولا دين.. ولا مبدأ شريف.. ولا (مِلة)
………………………………………………..
ها اكتب وهاكتب مهما جاروا علىّ
وداسوني بالنعل الحديد الحافي
تدينى قسوة جبال.. أكُون حنيّة
وأشيل حمولتك حتى (جوه كتافي)
………………………………………………..
الشِعر كان لىّ خلاص من قهري
باتدارى جوه عنيه من اللى سابوني
(سُم الفيران ) حطوه بقسوة لمُهري
واما اعترضت على اللي كان .. سَبُوني
………………………………………………..
آه يا عزيزة عيني كتب كتابى
يوم الخروج هاكتب كتابك تاني
بس انتى حُوشى المخبرين عن بابى
أرجوكى إطفي م الكيان أحزانى
………………………………………………..
يا شِعر يا اللى أخدني ضيَّك ليها
أم الضفاير ناعمة جوه كفوفي
أنا مستعد بكل عمري أفديها
مهما تِزيد أحزاني.. ويقيد خوفي
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد