بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف
واحدة من أكثر الأشياء السامة التي استجدت على حياة الشعوب العربية في العقدين الماضيين هي ثقافة (الحقوق الحصرية) التي ابتدعها في نهاية تسعينات القرن الماضي رجل الأعمال السعودي صالح كامل عبر مجموعة قنوات ART التي احتكرت حقوق بث مباريات كأس العالم في نسختي 2002 و2006 حصريا في المنطقة العربية، بجانب مباريات دوري ابطال افريقيا وكأس القارات.
(الحقوق الحصرية) هى ثقافة سامة ليست فقط لأنها حولت كرة القدم والرياضة بشكل عام من وسيلة للترفيه عن الناس المثقلين بهموم العمل والضغوط الحياة، وتعاملت معهم بمنطق التاجر اليهودي شيلوك بطل رواية شكسبير الخالدة (تاجر البندقية) وكل تاجر يهودي يرفع شعار الدفع أو الحبس، مع تغيير بسيط في الشعار ليصبح الدفع او المنع.
لكنها سامة أيضا لأنها فرضت على المشاهدين تلقي ما تريد القنوات أصحاب (الحقوق الحصرية) بثه وما ترغب في تقديمه لهم، أي فرض ذوق اصحاب هذه القنوات أو كبار المسؤولين فيها دون أن يملك المشاهد ممارسة أبسط حقوقه في القبول أو الرفض.
وبعد أن تحولت فكرة (الحقوق الحصرية) في الوقت الحالي إلى واقع مؤسف بات علينا نحن المشاهدين أن نخضع لجلسات من التعذيب النفسي والسمعي والبصري كلما أردنا مشاهدة مباراة ما في أي بطولة بما فيها البطولات المحلية.
التعذيب السمعي يتجسد في أصوات المذيعين وكذلك المعلقين الذي يفتقد أغلبهم أبسط معايير التعليق التي كان يمتلكها العديد من المعلقين القدامى من أمثال (محمد لطيف وميمي الشربيني) وحتى العرب منهم مثل الفلسطيني أكرم صالح.
الباب الذهبي للتعليق الرياضي
الآن أصبح الباب الذهبي لدخول عالم التعليق الرياضي ليس الكفاءة ولا الموهبة ولا حتى المتابعة والمعلومات وإنما فقط التقرب من هذا المسؤول أو ذاك، والجلوس معه بالساعات للعب الطاولة أو تقديم تقارير يومية منتظمة عن كل ما يحدث في القنوات ولا يتمكن المسؤول من رؤيته.
أما رأي المشاهدين فالجميع يتعامل معه بالشعار الذي كان يرفعه (حمدي أحمد) أو (محجوب عبد الدايم) في فيلم (القاهرة 30 ) المأخوذ عن رائعة نجيب محفوظ (القاهرة الجديدة) وهو (طز)، طالما أن كل معلق أو مذيع يستطيع دفع المال للجنة إلكترونية لكي تطلق حملات متكررة للاشادة بعبقريته.
هذه الطريقة كان (جوزيف جوبلز) وزير الدعاية في حكومة (هتلر) أول من ابتدعها وعبر عنها بجملته الشهيرة: (اكذب واستمر في الكذب حتى يصدقك الناس)، والآن أصبح العديد من المذيعين والمعلقين يطبقون طريقة واصل الإشادة المزيفة من خلال اللجان (المدفوعة مسبقا) حتى يؤمن الناس بأن هؤلاء يستحقون الإشادة فعلا.
أما بخصوص المعلومات فلم تعد مشكلة بالنسبة للمعلقين، بقدر ما تحولت إلى وسيلة جديدة لتعذيب المشاهدين، الذين أصبحوا مضطرين لسماع نفس المعلومتين أو الثلاثة التي جاد بها ويكيبيديا أو جوجل على المعلق ليظل يعيد يكرر نفس الكلام طوال المباراة.
أحد هؤلاء المذيعين كان مسؤول سابق في أحد الأندية يصفه بأن (عينه مقلوبة مثل الشياطين)!، لكنه بفضل جلساته الحميمة مع المسؤول الكبير يقدم برنامجا في وقت مميز وعلى المتضرر من هيئته وصوته (المسرسع) اللجوء إلى غلق التليفزيون.
وهناك المعلق العربي الشهير الذي يملك مئات الحسابات والصفحات التي تتغزل في عبقريته وحضوره والكاريزما التي يملكها خلف الميكروفون، لكنها تتجاهل حقيقة بسيطة جدا بقدر ما هي مؤلمة وهي أنه يعاني من (الخنف).
مذيع ثالث في قناة تملك أغلب (الحقوق الحصرية) مقتنع أن دوره الوحيد في الاستوديو هو (توزيع الابتسامات) البلهاء، منطلقا في الغالب من فكرة اقنعه بها بعض المنافقين حوله بأن له (طلة ساحرة) تخطف قلوب العذارى والثيبات.
عشرات المعلومات الخاطئة
وفي نفس القناة مذيع من جنسية عربية مختلفة عن الدولة التي تملك القناة، لا يملك لا حضور ولا ثقافة، بل أنه لا يكلف نفسه حتى بالتحضير الجيد للاستوديو الذي يقدمه ويحشر فيه عشرات المعلومات الخاطئة.
وتصبح المصيبة أكبر حين يتعلق الأمر بالتلوث البصري الذي يمارسه أغلب المصورين و مخرجي المباريات ويفرضونه فرضا على المشاهدين، خصوصا اذا كانت المباراة التي ينقلونها تخص الفريق الذي يشجعونه، وعليك أنت باعتبارك رهينة الحقوق الحصرية أن تشاهد ما يفعله وتضع في فمك ملعقة كبيرة من الماء المثلج لكي تبقى صامتا.
في أربعينات القرن الماضي كتب الشاعر الراحل (بيرم التونسي) قصيدته: (يا أهل المغنى وجعتوا دماغنا دقيقة سكوت لله)، ساخرا من تردي أحوال الغناء في ذلك الوقت ورداءة ما كان يقدمه مطربي ذلك العصر.
وأتساءل بشغف ما الذي كان يمكن أن يكتبه بيرم لو امتد به العمر ليعيش معنا العذاب الذي تفرضه علينا قنوات الحقوق الحصرية، وهل كان سيكتفي بتعبيرات شعرية أم سيخرج مضطرا عن وقاره ليستخدم ألفاظا يعاقب عليها القانون؟!