بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
للعرض المسرحي المصري خصوصيته النقدية، بخلاف (الدراما) الأوروبية المستمدة من كتاب ( فن الشعر ) لأرسطو، فعندما نتحدث عن العرض المسرحي المصري ، فنحن نتحدث عن النشأة الحقيقية لفن المسرح بمعناه الحقيقي.
المتمثل في الرؤية السمعية والبصرية عن طريق مؤدي تمثيلي، يلتحم بوجدان الجمهور المصري، بعكس (الدراما) الأرسطية التي وضعت بعض القواعد للنص الدرامي، وليس النص التمثيلي فيوجد فرق كبير بين الاثنين.
فقد وضع أرسطو نظرية خاصة بفن الشعر فقط، ولكنه لم يتطرق على الإطلاق إلى فن المسرح ( العرض المسرحي ).
وتوضح ذلك الدكتورة (نهاد صليحة) بأن أرسطو (فصل النص الدرامي المكتوب عن العرض المسرحي المرئي المسموع، ووضعه في مرتبة أعلى باعتباره أدبا يقرؤه المثقفون).. واعتبر العرض المسرحي لهذه النصوص الدرامية الأدبية (الذي يضعها في سياق فنون الفرجة) عنصرا هامشيا، يشغل أدني مرتبة في (الدراما)..
فالنص الدرامي عند أرسطو ليس مشروعا لعرض مسرحي.. بل هو مؤلف أدبي لغوي مكتمل في ذاته، لا يحتاج شيئا خارجه، وينتمي إلى تقاليد الكتابة الأدبية التي تتوجه إلى القارئ، لا إلى تقاليد الكتابة المسرحية التي تتأسس على تضمين تقاليد وأعراف العروض المسرحية في صميم بنائها.
وعلى فرضية وجود الممثل والجمهور، ومشاركتهم في إنشاء عرض مسرحي حي ومتجدد، كشرط لوجودها وتحققها، ولهذا فإن مصر هي المؤسسة الحقيقية لفن المسرح القائم على العرض والأداء.
واذا نظرنا إلى المسرح المصري في بداياته القديمة حتى عصرنا الحالي، فسوف نلاحظ ملاحظة هامة ، وهى أن هذا المسرح كان له هدف نقدي (لكل ما يخص الحياة المصرية)، فقد قدم شخصيات مسرحياته بأسلوب نقدي، اعتمد على التحليل السمعي البصري ، لشخصيات العمل المسرحي، ونسوق مثال: من مسرحية الأسرار
مشهد قتل أوزيريس
ست يتجه بمركبة إلي الشاطئ ومعه اتباعه ، وأثناء رسو القارب على الشاطئ يتوجه أوزيريس بكلامه إلي ست لكي يثنيه عن قتله.
أوزيريس: (أني لم أرتكب إثما، لا تجعل بغضك يتفجر ضدي، إنني أمنح، وسأعصيك وفقا لأوامري، ولا تنتزع قلبي من جنياه، فإنني أنا رب الحياة).
هذا المشهد الذي يأتي في نهاية حياة أوزيريس، وهو يلخص مجموعة الأحداث في مسرحية الأسرار، وبعيدا عن الموضوع الديني، نلاحظ أن العرض المسرحي اشتمل على تحليل نقدي نفسي لشخصية أوزيريس وشخصية ست:
فالأولي: شخصية ذات طبيعة نفسية عطاءة ، عادلة ، معلمة (علم المصريين الكثير).
الثانية: شخصية ذات طبيعة نفسية حاقدة، وذات طمع، وجاهلة (والجهل هنا يدور حول تفكيره في نفسه فقط، فهو يفكر في اعتلاء السلطة فقط، ولا يهمه أمر شعب مصر).
وهذه الثنائية بين الشخصيتين، من خلال أحداث المسرحية وضعت المشاهد أمام رؤية تحليلية بين الشخصيتين وتأثير كلاهما على حكم مصر، فنري أوزيريس العامل على تعليم المصريين الحضارة، وكانت البلاد موحدة، وبين ست الجاهل الذي قسم البلاد وصنع الفتنة، وجر الخراب على أرض مصر.
ولذلك كانت المسرحية لها طابع نقدي تحليلي، الهدف منه أن تكون أرض مصر موحدة، وأن يعمل الشعب على المحافظة على هذه الوحدة والحضارة التي علمها له أوزيريس.
وإذا انتقالنا إلى مسرحيات إيزيس سنلاحظ أيضا التحليل النفسي النقدي لهذه الشخصية، المتمثل في القوة والعزيمة والثقة بالنفس والأمومة ونسوق أمثلة:
الثقة بالنفس
مشهد التشكيك في حملها من أوزيريس:
المرأة: ولكن كيف تعلمين أن ذلك الذى سوف تضعينه في داخل البيضة هو من أجل الإله السيد ووريث آلهة العناصر.
إيزيس: أنا إيزيس اكثر الآلهة شهرة وقداسة، إن الإله الذى بين أحشائي هو غرس أوزيريس.
آتوم: يقول هذه التي حملت سرا، هى فتاة حملت وستضع دون تدخل من الآلهة حقا، وهذا يعني أنه غرس أوزيريس.. نلحظ ردها على المرأة بأنها عفيفة، ولا تعرف الطريق الخاطئ.
العزيمة
مشهد الجزيرة (صامت):
أمر ست بوضع إيزيس داخل جزيرة في الأحراش.. (يصور وضع إيزيس عندما وضعت في الجزيرة ).
تستكشف إيزيس الجزيرة:
الجزيرة محاطة بالماء، وتعيش فيها التماسيح محيطة بالجزيرة، بحيث إذا حاولت إيزيس الهرب تلتهما التماسيح.
الصراع من أجل البقاء:
يبدأ صراع إيزيس في المحافظة على حياتها من أجل أن تعيش والمحافظة على المولود حتى تضعه، وتمر بمجموعة من الظروف القاسية، فقد وجدت عين ماء تعينها على الشراب، وبدأت في أكل أي شيء موجود بالجزيرة حتى حانت لحظة ميلاد حورس.
الأمومة
لدغ حورس: ظهور مشاعرها كأم تستغيث.. إيزيس: ها هو ذا حور قد لدغ ، ابنك حور يا راع قد لدغ، لدغ حور، لدغ حور وارث وريثك الذى على مملكة شو، لدغ حور فتى خميس، الفتى المقدس لقصر الأمير.
لدغ حور الرضيع الذهبي، الطفل الذى فقد أباه وهو في المهد، لدغ حور الذى كان قلقا في المخبأ والذي كان يخاف منذ كان في بطن أمه.
القوة
مشهد تثبيت حورس عند معركته مع ست (البحيرة)..
إيزيس: لقد نذرت ثوبا لإلهة المراعي.
وإلى ربات الصيد: تابت وشدت وسوتيس وجايت
ثبت رجليك ضد هذا الفرس النهري، واقبض عليه بيدك
وإن كنت قد اصبحت تابعا فلسوف تقضى على هذا الأذى
وتسئ معاملة الذى أساء معاملتك
أي حور ولداه.
مشهد يظهر قوة تربيتها لحورس وإطاعته لها.
إيزيس: والحوامل من فرس النهر لا يلدن،
ولم تحمل واحدة من إناثهم.
عندما يسمعون صوت رمح الخاص بك
وصفير نصلك، مثل الرعد في شرق السماء
كالطبل في يد طفل.
وهكذا عند عرض مسرحيات إيزيس، نلاحظ تحليل نقدي نفسي للمرأة المصرية التي استطاعت استراد عرش مصر، وأصبحت تلقب بالعرش وابنها حامي العرش (أي أرض مصر)، وكيف استطاعت هذه المرأة الوقوف في وجه ست صاحب النفس الجاهلة الدنيئة التي جرت البلاد إلى وضع سيء.
وهكذا يكون العرض المصري القديم صاحب رؤية نقدية تحليلية، الهدف منها إظهار التماثل بين شخصياته في صورة تمثيلية، ناقدة ومحللة، وبهذا نكون قد أوضحنا أن المسرح المصري القديم كان مسرح ناقدا محللا للشخصيات التمثيلية في (الدراما).
ونكتفي بهذا القدر وهذه النماذج من المسرح المصري القديم، ونقدم الصورة النقدية التحليلية في المسرح المصري الحديث في مقالة لاحقة.