رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: (حلمي مراد).. كاد المعلم أن يكون سجينا !

كان شبح المخبر السري يطاردني وأنا ذهب للقاء الوزير

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

اقتنع والدى أخيرا أنه لا لزوم لأن يصاحبنى إلى مكتب وزير التعليم الذى استدعانى.. وأنه لا داعى لقلقه الذى ضاعفه طواف المخبرين حول بيتنا وتعقبهم لى في كل خطوة بعد عودتى من المؤتمر الأدبى الذى ترأسه شعراوى جمعه وزير الداخلية.

في الفجر ركبت قطار الدرجة الثالثة متوجها إلى القاهرة.. على النغمات الرتيبة لعجلات القطار كنت أجتر معلوماتى عن الوزير الذى أنا في طريقى الآن لمقابلته.. الوزير (محمد حافظ غانم).. جاء خلفا لوزير التعليم السابق (حلمى مراد)، و د. محمد حلمي مراد أستاذ قانون مرموق.

وكان قبل نهاية ستينات القرن الماضي، أصغر رئيس جامعة في مصر.. وهو (راهب علم ونضال) عاش ومات وحيداً، ولم يتزوج أبداً.

بعد نكسة يونيو 1967 اشتعلت الجامعات بمظاهرات الطلبة الغاضبة.. مما دعا جمال عبد الناصر لدعوة رؤساء الجامعات ليستمع منهم للتفاصيل.. وفي الاجتماع كان (حلمي مراد) – بوصفه الأصغر سناً – آخر المتحدثين.

وقد فوجيء بأن من سبقوه قدموا تقريراً أمنياً عن المتظاهرين..عدد الطلاب.. شعاراتهم.. مسار المظاهرات، فلما جاء دور الدكتور (حلمي مراد) تحدث باستفاضة عن الطلاب ودوهم الوطني في تاريخ مصر المعاصر، ودافع عن حقهم في الاحتجاج السلمي، معترضاً على الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المظاهرات.

كما أنه انتقد بشدة حكم الحزب الواحد وحمله المسئولية عن الأوضاع التي أدت إلى النكسة.. ورغم غضب عبد الناصر من كلامه إلا أنه فوجئ بعد أيام من هذا اللقاء باتصال من جمال عبد الناصر يطلب منه تولي منصب وزاري فاعتذر مراد بحبه للتدريس.

فكان رد عبد الناصر عليه محرجاً، إذا انتقد منطق المثقف الذي ينتقد وهو خارج السلطة فإذا جاءته فرصة للمساهمة في الإصلاح يعتذر!.. وقبل (حلمي مراد) المنصب ليعرف في تجربة عمرها 16 شهراً لا أكثر، أنه في مرمى نيران شلة من المحيطين بعبد الناصر وكان (حلمي مراد) يسمى هذه الشلة: (مكتب الخدم)!!

كانت المعركة بين (حلمي مراد) و(مكتب الخدم) سببها رغبتهم في السيطرة على عبد الناصر ورفضهم أن يسمحوا بأن يتولى أي شخص منصباً إلا من خلالهم.

في إحدى الاجتماعات كان عبد الناصر يتحدث عن (حلمى مراد) غاضبا لأنه سرب معلومات

عبد الناصر عاضب من (حلمى مراد)

في إحدى الاجتماعات كان عبد الناصر يتحدث عن (حلمى مراد) غاضبا لأنه سرب معلومات – و لو بحسن نية – للرأي العام عن تقرير ما زالت المناقشات فيه دائرة دون قرار نهائي.

حتى أن عبد الناصر انهى الاجتماع فجأة غاضبا لينصرف.. حاول (حلمى مراد) أن يلحق بالرئيس ليعتذر غير انه اهمله تماما و طلب من سائق سيارته الانصراف غير مكترث بمحاولته الاعتذار .. وحسب رواية (حلمي مراد)، فإنه – آنذاك – لم يكن يملك سيارة.

ووصل إلى رئاسة الجمهورية في سيارة رئيس جامعة يسكن قريباً منه، والذى عند العودة رفض أن يوصِّل الدكتور (حلمي مراد) بسبب الموقف الغاضب  لجمال عبد الناصر، معقبا  للدكتور (حلمي مراد): لن تعود إلى بيتك إلا جثة، سيضربونك بالنار!

و يبدو أن (محمد حافظ غانم) كوزير جديد كان قد استوعب الدرس جيدا.

توجهت الى وزاره التربية والتعليم بشارع القصر العيني بالقاهرة.. كان معي نسخة من ديواني (الدنيا هي المشنقة) مقررا إهدائها للوزير.. وأخرى احتياطيه لأي شخص يحب الشعر في الوزارة.

أخبرت الاستعلامات أنني حضرت لمقابلة الوزير.. رفضوا.. أخبرتهم أنه هو الذي طلب مقابلتي.. وعندما علموا أنني (إبراهيم رضوان) سرى الاضطراب بينهم وأرسلوا معي من يوصلني إلى مكتب (شعلان) نائب الوزير، (شعلان) قبل مقابلة الوزير.

وكان من الواضح لى منذ أول لحظة أن شعلان مشحونا بمشاعر عدائية ضدى.. استقبلني بتجهم و أخذ يحدثني عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها المعلم الذي كاد أن يكون رسولا.

ومما زاد من حنقه أنى تركته جالسا إلى مكتبه الفخم يبعثر باقى كلماته المشحونة بالتهديد ووقفت أنا اتأمل على جدار مكتبه لوحة أعجبتني: لراعي غنم.. الأغنام كثيرةأمام الراعى  نار كأنها حقيقية.

وقفت منبهرا أتحسس بأصابعى توهج النار في اللوحة ..من يراني في هذه اللحظة يظن أن النار قد لسعتني.. فى غيظ  اتجه بى إلى مكتب الوزير وقسمات وجهه لحارس رومانى يسوق متمردا في طريقه إلى محاكمة رومانية ستنتهى بإلقائه في الحلبة طعاما لأسد جائع.

أنا لم أحير وزارة الداخلية.. فقط حيرت (عم عطية) المخبر!!

أنا  لم أحير وزارة الداخلية

دلفنا مكتب الوزير بينما (شعلان) بلهجة من في حضرة سلطان يشير ناحيتى: دا يافندم (إبراهيم رضوان) اللي محير وزارة الداخلية.. تعجبت.. أنا  لم أحير وزارة الداخلية.. فقط حيرت (عم عطية) المخبر!!

نظر لي الوزير طويلا.. أخبرني أنه كان يتخيلني غير ذلك –  تصدق يا (إبراهيم) رغم خطورتك ما كنتش أعرف اسمك غير امبارح.

خطورتي على إيه؟

على أمن مصر.

كدت أن أضحك.. قررت بيني وبين نفسي أن أعامله معاملة أطفال.. قطع الوزير الصمت – أنا سعيد جدا إني أنقذت ابن من أبنائي.

لم أفهم..

أنا وشعراوي بيه جمعة قعدنا نتكلم عنك امبارح ييجى 3 ساعات.. جنابه كان عايز يسجنك.. وأنا أقنعته نديك فرصه تانية-

مش فاهم..

اكتشف الوزير فجأة في لهجتي أنني أعامله رغم سنه معاملة أطفال.. واكتشف نائبه كذلك أيضا ما اكتشفه وزيره ليصرخ  في وجهي – اتكلم مع الوزير كويس يا أستاذ..

قررت في نفس اللحظة أن أعامله بنفس الطريقة كطفل!

أكمل الوزير (محمد حافظ غانم) حديثه وقد بدى على وجهه الضجر- الخدمة اللي أنا عملتها ليك. إني بدل ما الباشا يسجنك اكتفيت بنقلك لسوهاج.

في هذه اللحظة تذكرت أنني مسئول عن تسع إخوة.. وعن أم.. وأب في المعاش.. و.. و.. و..

سمعت كلمة سوهاج فأصابتني بصدمة عنيفة جعلتني أتفوه بألفاظ رهيبة عكست الصدمة على قسمات وجهى الوزير ونائبه.. كان أكثرها تأدبا من قبيل (ها يعملوا فيك إيه يا قرد، وضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانة).

زاد هياجي أكثر عندما صاح الوزير (حلمي مراد): ابتعوا هاتوا العساكر يسجنوه.. حاول نائب الوزير وسط هياجى أن يمد لى يده بخطاب لتسليمه لوكيل أول وزارة التعليم بسوهاج فقذفت به إلى الأرض ودوسته بأقدامي.

أحسست أثناء سيري بأقدام تتعقبنى.. نفس أقدام و خطوات (عم عطية) المخبر

خطوات (عم طية المخبر 

غادرت المكان تاركا الوزير يجتر غضبه وذهوله.. أحسست أثناء سيري بأقدام تتعقبنى.. نفس أقدام و خطوات (عم عطية) المخبر.. عند النافورة التي تعلو بالماء في مخرج الوزارة  التفت ورائي قبل أن يضع الشخص الذي يتعقبنى يده على كتفي.

كان (شعلان) نائب الوزير.. في هدوء وأبوية مفاجئة أقنعني الرجل أن أعود الى مكتب الوزير وأتسلم الخطاب.. و أن أنفذ نقلي إلى سوهاج منعا للبهدلة المهنية والأمنية.

وحينما لاحظ تعجبى من تحوله المفاجئ همس لى أن سر تعاطفه معي أن له ابن في سني كان ثائرا.. وبعد أن جلب له الكثير من المتاعب سعى في أن يحصل له على تأشيرة وقام بإرساله خارج مصر قبل أن يعتقلوه.

اتجهت معه عائدا لمكتب (محمد حافظ غانم) الذي فرح بعودتي وهو يتظاهر بأنه يتكلم في التليفون مع (شعراوى جمعة) قائلا: خلاص يا افندم.. مفيش داعي للعساكر.. هو رجع تاني أهو وجاي يعتذر.. حاضر يا افندم.. ها أقبل اعتذاره.. بعدين هاحكي لجنابك يا افندم .

التفت ناحيتى مكملا حديثه معي: هاعطيك دلوقتى جواب مقفول لوكيل الوزارة في سوهاج.. إوعى تفتحه.. وتسلم نفسك ليهم بكره.

أنا لسه ها سافر المنصورة أحضر حاجتي.

يبقى بعد بكره.

على سلالم الوزارة.. كنت أقوم بفتح الخطاب السري الذي أعطاه لي لتسليمه لوكيل وزارة التربية والتعليم بسوهاج.. التفت خلفي حيث كان الوزير يقف في شباك حجرته متخففا من حدة برودة التكييف في حجرته.. بينما كنت أمسح عرقي في الخطاب الذي معي..

و 

الكلبش

قالولى يوم بهمسة

الساعه كام يا جار

أنا قلت كلبشى لسه

فى إيديّه ليل نهار

……………….

فى المنفى (سوهاج) خدونى

ورحلونى ليكي

جيتلك يا نور عيونى

أمسح دموع عنيكى

……………….

 فى (لا ظوغلى) جف ريقى

فى الأوضه الضلمة جدا

يا مصر.. كان صديقى

فى طريقى.. ديك بيدن

……………….

يا كلبش .. لسه خانق

إيديّه.. هَوىِّ حبه

السجن طعمه حادق

زى خيانة الأحبة

……………….

فى القلعه الإبليسيه

الحبس الانفرادى

لا شايفه شئ عنيّه

ولا ماسكه حاجه إيدى

……………….

كلبشى .. يا كلبشى

بينى وبينك حواجز

وياك مش قادر امشى

وحاسس إنى عاجز

……………….

آه يا (طرة) اللى لسه

مستنيّه الصحابة

إمتى تحضُنا مرسا

بعيد عن الديابة

……………….

(نشاط معادى) .. أحسن

لىّ .. من أى يافطة

صوتهم خلانى أحزن

بيحول ريقى شطة

……………….

علقت البطانية

فى الزاويه أدارى نفسى

تنزل دموع عنيّه

ويزيد فى القلب يأسي

……………….

يا كلبش لسه باين

وضاغط ع الوريد

عمرى ما كنت خاين

علشان أعيش طريد

……………….

متقيِّد .. نفسى أعيِّد

بره الزنزانة يا ابه

لو يبقى الشعر (جيد)

بيقلق الديابة

……………….

(حرامى فراخ) يا طاهرة

جنبى بيبص لىّ

راكب قدامى مُهرة

وأنا راكب (100) قضية

……………….

يا مصر.. فهمينى

إزاى تِكلبشيني

وانت العزيزه دايما

والضىّ بين عيونى

……………….

صعبان عليّ إنى

متقيِّد غصب عنى

راعى يا مصر إسمى

راعى يا أمى سِنِّي

……………….

على كل حال باحبك

مهما الخنزير عدانى

لو حتى قتلتى قلبك

هارجع م القبر تانى.

من كتب (مدد..مدد)

سيرة ذاتية للبلد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.