بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
نصت قرارات التقشف التي صدرت عن مجلس الوزراء العام الماضى – والسارية حتى الآن – على أن كافة الجهات الداخلة في الموازنة العامة للدولة – وفيها بالطبع وزارة (الثقافة) عليها أن تعمل على تنمية مواردها الذاتية لتلبية جانب من احتياجاتها، لتخفيف الضغط على الموازنة العامة للدولة.
وفي الحقيقة أن تطبيق هذا القرار على وزارة (الثقافة) بمثابة قتل لطبيعتها التي أنشئت من أجلها، كما أنه قرار جائر، فعمل وزارة (الثقافة) ينحصر في بناء البشر، وهو بناء يتكلف كثيرا وعائده غير منظور أو يمكن حصره.
فليس لدينا حصر بعائدات (صناعة أمّة) ولا نملك وسيلة لتقييم (رفعة وطن)، ولا نستطيع أن نحسب قيمة ما نخسره نتاج لفقدان قوانا الناعمة، وبالتالى فاعتبار وزارة (الثقافة): (جهة تحقق المكاسب) يتنافى تماما مع طبيعتها والهدف من وجودها، ولن نخوض من جديد معركة إثبات ضرورة هذا الوجود.
ويكفينا هنا ما قاله السيد الرئيس عن معركة الوعى في وطن محاصر بالأطماع والمؤامرات و الصراعات على حدوده.
أعرف أن عشرات الأقلام سوف تكتب عن (الصناعات الثقافية واقتصاديات الثقافة)، وكيف تحولت الى مصدر من مصادر الدخل القومى، و لكن دعونا ننظر للأمر بشكل واقعى، وبعدها نسأل انفسنا كيف تحقق الثقافة مكسبا ماديا يمكنها من تلبية جانب من احتياجاتها؟
أولا: إن جميع إيرادات وزارة (الثقافة) – فيما عدا قطاعات قليلة مثل دار الأوبرا وصندوق التنمية الثقافية – تعود الى وزارة المالية، ولا يجوز قانونا أن تصرف وزارة (الثقافة) من تلك الإيرادات أي مبالغ تحت أي مسمى.
فعلى سبيل المثال: جميع إيرادات التذاكر التي يحققها مسرح الدولة تورد بالكامل لوزارة المالية، جزء منها بشكل (يومى) تحت مسمى ضريبة الملاهي، والباقى يتم تجميعه كل فترة و تحويله لوزارة المالية.
قطاع الإنتاج الثقافي
وإذا احتاج أي مسرح لأى من ضروريات العرض (جهاز إضاءة او ميكروفون مثلا)، فعلى المسرح أن يلجأ الى قطاع الإنتاج الثقافي ليدبر له هذا الاحتياج من الميزانية المخصصة.
وإذا كانت الميزانية لا تسمح لانتهاء البند فلا يجوز ان يتم توفير هذا من فلوس الإيرادات!!، فكيف إذن تلبى وزارة (الثقافة) احتياجاتها من مواردها الذاتية؟!
ثانيا: إن الميزانية المخصصة للإنتاج المسرحى ضئيلة و زيادتها السنوية – إذا زادت – لا توازى بل لا تقارن بزيادة الأسعار، و بالتالى فالفرق المسرحية الحكومية أصبح انتاجها أقل بكثير عن سنوات بداية الألفية الثانية، والتي كانت أقل من التسعينات، وهكذا يتقلص الإنتاج عاما بعد عام.
ومما زاد الأمور صعوبة إلغاء قرار لوزير المالية كان قد صدر في الثمانينات بأن تعود نسبة 90% من قيمة الإيرادات لتدخل ميزانية المسرح مرة أخرى تحت مسمى (تعزيز الميزانية).
وكان هذا دافعا لتنافس مسئولي المسرح من أجل تقديم أعمال تجذب الجمهور ليستمر الإنتاج طوال العام، ومع إلغاء هذا القرار أصبحت وزارة المالية تتحكم في نسبة (التعزيز) بل من حقها إلغاؤه تماما.
وبالتالى فمن الممكن أن تتوقف العروض لانتهاء الميزانية أو تُحرم الأقاليم من رؤيته لأن الميزانية لا تسمح، وعلى وجه آخر لم يعد هناك حافز لمسئولى المسرح لأن يقدموا عروضا ناجحة تحقق الإيرادات فالكل سواء.
ومازلت أذكر أنه في أحد السنوات انتهى الموسم المسرحى في شهر يناير، أي قبل موعده بثلاثة أشهر لرفض وزارة المالية تعزيز الميزانية، وهنا نعود الى نفس السؤال من أين تلبى وزارة الثقافة احتياجاتها، وأنت منعت عنها موردا ضئيلا يمكنها من استمرار عملها؟
ثالثا: فى الحقيقة كان الوزير الأسبق فاروق حسنى سباقا فى محاولة حل مشاكل ميزانية الوزارة – برغم أنها لم تكن متفاقمة مثل الآن – فلقد أنشأ عام 1989 كيانا يسمى (صندوق التنمية الثقافية) وجعله ذو طبيعة خاصة.
بحيث يتحرر من كثير من التعقيدات البيروقراطية واللوائح والقوانين العتيقة، وكان التمويل الرئيسى للصندوق 10 % من حصيلة إيرادات الأماكن الأثرية والمتاحف، ليصبح شريكا اساسيا فى نشاط الوزارة – بما يملك من أموال وقدرة على التنفيذ وحرية فى الحركة – فى كثير من مشروعات البنية الأساسية كإنشاء المكتبات.
وفى تمويل المهرجانات الفنية والمؤتمرات والندوات الفكرية وتحويل الاماكن الأثرية الى مراكز إبداع وتقديم الدعم للجهات الاهلية ذات الأنشطة الثقافية.
انقطع دعم الصندوق
ومع فصل الاثار عن الثقافة وإنشاء وزارة لها انقطع دعم الصندوق، وخسرت وزارة (الثقافة) مصدرا هاما للتمويل يساهم فى سد عجز تمويلها القاصر عن تحقيق أهدافها.
وبرغم أن بعض وزراء (الثقافة) فى فترة ما بعد ثورة يناير أعلنوا أن الميزانيات لا تكفى، و أن توقف تمويل صندوق التنمية أضاف أعباء على ميزانية الوزارة، إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تستجب و تعيد نسبة ايرادات الاثار المساهمة فى الصندوق أو توفر تمويلا بديلا.
والآن تحول الصندوق إلى قطاع من قطاعات الوزارة وفقد ميزاته الأساسية إلى جانب تمويله.
رابعا: إذا نظرنا الى ميزانية وزارة (الثقافة) سنجد أن الجانب الأكبر منها هو مرتبات الموظفين ومخصصاتهم المالية، وهؤلاء الموظفين ينقسمون لعدة فئات:
الأولى: فنانون ومتخصصون فى العمل الثقافي، أو خبراء أو منشطين ثقافيين أو قادة للعمل الثقافي، وهؤلاء لا تتعدى نسبتهم من 15 إلى 20 %.
والفئة الثانية: عمالة فنية عددها ضئيل لا يفى بحاجة العمل وللأسف فى سبيلها الى الانقراض.
أما الفئة الثالثة: وهى الأكبر فهى الوظائف الإدارية والمالية اللازمة لتسيير العمل، وللحق فإنها فى معظم مواقع الوزارة أكبر وأضخم مما يجب، وفى بعض الأماكن تبلغ الضخامة حدا غير معقول.
وتلك أزمة قديمة ربما قدم الوزارة نفسها، وساعد على تفاقمها قبل ثورة يناير نواب مجلس الشعب – وخاصة نواب الإخوان – فقد كانت وزارة (الثقافة) ملجأ لهم لتعيين الاقارب و المناصرين.
أما بعد الثورة – ونتيجة للمظاهرات الفئوية – فقد تم تعيين عدد كبير من الموظفين دون الحاجة إلى معظمهم، و هكذا تسير الوزارة بجهاز إدارى مشوه يترهل فى بعض الأماكن، ولديه قصور فى أماكن أخرى.
خامسا: يقول البعض بأن أزمة وزارة (الثقافة) وقصور أدائها سببه إدارة ميزانيتها، وليس قلتها أو عجزها، وأنه فى بعض الأحيان لا يتم صرف كامل الميزانية، وتعود مرة أخرى لوزارة المالية.
تسويق المنتج الثقافي
وهناك شائعة قوية تسرى منذ سنوات أن المسئولين الماليين يتعمدون عدم صرف كامل الميزانية لأنهم يتقاضون نسبة من المتبقي كمكافآت!
سادسا: إن القوانين واللوائح تقف عائقا أمام أي مشروع ثقافى استثمارى، وتوقفت أي مبادرات للتعاون مع القطاع الخاص أو أي وسيلة لتسويق المنتج الثقافي (كبيع حق تصوير المسرحيات مثلا)، ويخاف الجميع من استقبال رعاة حتى لا يتهموا في ذمتهم المالية.
حتى (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) عندما أعلنت أنها ستستغل أسطح قصور (الثقافة) وأسوارها لعمل مساحات إعلانية مات المشروع دون إبداء الأسباب!!
وبعد أن تناسى الجميع مهمة وطبيعة وزارة (الثقافة)، وسعى المسئولين عنها الى تحقيق أرباح أو (تنمية مواردها الذاتية) حسب الصيغة المهذبة، لم يجد هؤلاء المسئولين أمامهم سوى (بيع الأصول).
فبعد المطالبة بنقل (مسرح السامر) إلى منطقة نائية وبيع أرضه، هناك شائعة جديدة بهدم بعض المباني بأرض الأوبرا التي تقع على النيل (مبنى قطاع الإنتاج الثقافي، والمجلس الأعلى للثقافة، و ورش الأوبرا، والمبنى القديم للمركز القومى للترجمة) وبيع الأرض!!
فهل البيع هو الحل الوحيد؟
ولهذا حديث آخر…