محمد عبد الواحد يكتب: (روزاليوسف).. أم.. وابن .. وثورة! (9)
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
أشعل (إحسان عبد القدوس) الساحة السياسية المصرية عندما نشرت له (روزاليوسف) في مجلتها 29 مقالا كشف فيها الستار عن الأسلحة الفاسدة.. مسلطا الضوء على جرذان السرايا و الأحزاب ..لتنقلب كل القوى عليه و يتم عرضه على النيابة.
تحاول (روزاليوسف) الأم تحمل العقوبة باعتبارها المسؤولة عن النشر بينما يصر (إحسان) على تحمل العقوبة بصفته الكاتب ليتم إيداعه السجن، فترسل له أمه خطابا مفتوحا يقرأه في الضوء الشاحب لزنزانته تقول فيه:
(إلى ولدى السجين.. أحييك في سجنك تحية أم.. وتحية مواطنة حملت قبلك شرف الجهاد في قضية مصر.. وقد اختلط في نفسى شعور الأم بشعور المواطنة.. و إن في قلبى ليستعر جحيمان.. جحيم الأمومة وجحيم المبدأ.. وكلاهما قطع من العذاب..
والسجن يا ولدى منازل الأحرار إذا دخلوه مدافعين عن حرية الرأي مناضلين في سبيل الحرية.. فلا يرضون إنحناء الرأس وتلجيم الفم من أجل متاع دنيا لا تدوم.. إلخ).
حينما خرج (إحسان) من السجن أولته أمه رئاسة تحرير (روزاليوسف)، وتركت له على مكتبه خطابا أودعته وصاياها، ومنها:
(مهما كبرت ونلت من الشهرة.. فلا تدع الغرور يدخل نفسك .. فالغرور قاتل.. حافظ على صحتك فبغير الصحة لن تفعل شيئا.. مهما تقدمت بك السن.. فلا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك، بل كن دائما شاب الذهن والقلب.. حارب الظلم أينما كان و كن مع الضعيف على القوى ولا تسأل عن الثمن).
دائما ما كانت فاطمة (روزاليوسف) تؤكد على ابنها في تكوينه ككاتب وصحفي، أن المناخ السياسى الذى يعيشه الشعب – آنذاك – لا يسمح بأنصاف المواقف.. وعلى حامل القلم أن يقول صراحة عن طريق قلمه هل هو مع الشعب أم ضده.
منبرا لكل الأحرار الثوريين
أصبح مقر مجلة (روزليوسف) – آنذاك – منبرا لكل الكتاب الأحرار الثوريين.. لتتفجر على صفحاتها أخطر المقالات السياسية، الكفيلة بإشعال البارود في وجه النظام القائم بمحاوره الثلاثة الإنجليز والقصر والأحزاب المرتمية في أحضانهما.
كان من ضمن الحضور المتحمسين الضابط (أنور السادات)، والضابط (رشاد مهنا)، الذى بدوره عرف الضابط (عبد الناصر) على (إحسان) لتنشأ بينهما صداقة فكرية وإنسانية وطيدة.
لم تنقطع زيارات هؤلاء الضباط لـ (روزاليوسف) حتى بعد قيام الثورة.. كانت (روزاليوسف) أما لكل أصدقاء ابنها المتحمسين لحرية مصر.. وقد وصل حماس هؤلاء الضباط الثائرين إلى حد الإسهام – من وراء الستار – في تحرير المجلة.
(السادات) يكتب بلا توقيع مقالات عن فلسطين وغيرها من القضايا السياسية.. وضباط آخرين يتطوعون بالعمل كمخبرين سريين لباب (أسرار المجتمع)، لنشر فضائح الطبقة الحاكمة.
كمثال كان خبر عن ابنة (عبد الفتاح يحيى باشا) التي تنفق على كلبها شهريا مائتي جنيه لتقوم مظاهرة أمام وزارة المالية تهتف طالبة المساواة بكلب ابنة (عبد الفتاح يحيى).
كانت مقالات (روزاليوسف) عموما و(إحسان عبد القدوس) خصوصا، وبالذات ما تناول منها قضية (الأسلحة الفاسدة)، و المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، والتي تم الغائها بالفعل عام 1950 هي فترة مخاض لثورة 23 يوليو، وتهيئة الشعب لاستقبال المولود الجديد.
توالت مقالات (إحسان عبد القدوس) كطلقات المدفعية لتمهيد الميدان لحركة الضباط للقيام بالثورة.. من عناوين مقالاته هذه الفترة مقالا يهاجم فيه (الهلالى باشا) بعنوان: (رئيس الوزراء الذى لا يفهم شعبه لن يكتب له البقاء).
وعن (الهلالى باشا) أيضا كتب: (الرجل الذى لا يستطيع أن يكون بطلا).. وفي مايو1952 كتب مقالا بعنوان: (امنحوا الشعب حرية المطالبة بالحرية)، وأعقبه بمقال عنوانه: (الرجل القوى هو الذى يحكم بلا أحكام عرفية).. و غيرها.
بعد نجاح الثورة التي كان (إحسان) أول المهنئين للقائمين عليها لاحظ بطء استجابة (علي ماهر) لأهم مطالب الثورة، وهى قانون الإصلاح الزراعى فهاجمه في مقال مطالبا فيه بذهابه لكنه فوجئ بمنع مقاله من النشر.
صدمة (إحسان) لمنع مقاله
كانت صدمة (إحسان) لمنع نشر مقاله هائلة، فهي المرة الأولى التي يحدث له فيها مثل ذلك المنع.. على الفور يسارع (إحسان) غاضبا للقاء صديقه (عبد الناصر) شاكيا له منع الرقيب لمقاله ليفاجئه (عبد الناصر) بأنه ومجلس قيادة الثورة بنفسهم هم من منعوا المقال!
وحينما صرخ فيه (إحسان) ملتاعا: (لماذا؟) أجابه عبد الناصر: (لأننى لا أريد أن أرسخ في أذهان الشعب أن هناك من يقترح على الثورة فتنفذ اقتراحه، حتى لو كان هو عين الصواب.. لا أريد أن يتصور الناس أن هناك وصاية على الثورة حتى لو جاءت هذه الوصاية في شكل مقال يكتبه صحفى لا شك في طهارة قلمه..
ولو أننا نفذنا اقتراحك يا إحسان، وأنت صحفي صناعتك القلم، فماذا يبقى لنا لنعمله وقد صرنا كمسؤولين عن الثورة حكاما صناعتنا الحكم؟).
ولم يتم نشر المقال إلا بعد أخذ ورد، لتقال وزارة (علي ماهر) بالفعل يوم 8 سبتمبر عقب نشر المقال بثلاثة أيام، وتتألف وزارة (محمد نجيب) الأولى.
ورغم نشر المقال كتب (إحسان) قائلا: (أحسست بعد لقائى بعبد الناصر أنه قد بدأ يتجمع حول صديقي لصوص الثورات في كل العصور.. يحيطونه في كل زمان ومكان .. مما أصابنى بمرارة داخلية).
بعد نجاح الثورة تحمل (إحسان عبد القدوس) مسؤولية تمهيد الشعب لتقبل التحول إلى نظام جمهورى بعد آلاف السنين من النظام الملكى المترسخ في عقول المصريين بكل طوائفهم، ولم يكن تصورهم السياسى يتسع لأى نظام آخر.
ليبدأ (إحسان) في سلسلة من المقالات يناقش فيها الشعب بهذا الخصوص تحت عنوان: (كيف نريد أن تحكم مصر؟)، داعيا فيها إلى إنهاء النظام الملكى والبدء في النظام الجمهوري.
محذرا في الوقت نفسه أن إرساء نظام جمهوري سليم يحتاج إلى شعب واع قوي وإلا انقلب أول رئيس للجمهورية إلى ديكتاتور له سلطات ملك – مثلما حدث في لبنان آنذاك – حينما قرر رئيس جمهورية لبنان أن يعدل الدستور ليجعل من نفسه رئيسا مدى الحياة.
وقد وضع (إحسان) يد الشعب في يد ضباط الثورة في مقال له تحت عنوان (الملائكة اللذين عزلوا الملك ثم ارتفعوا إلى السماء).. بتاريخ 8/9/1952 قائلا:
(أرى أماني العمر قد وضعت في يد جماعة من الملائكة الطهارى، تأبون على الأرض ويتعلقون بالسماء و يتعففون أن يكونوا بشرا لهم حسنات و لهم أخطاء..
إنهم ملائكة هؤلاء الذين قاموا بالثورة، وتحملوا مسئوليته،ا وتعهدوا بالوصول إلى أهدافها.. ملائكة يؤمنون بالدستور إيمانا قويا مجردا من الأطماع.. ملائكة يؤمنون بالنظام الحزبى والحرية الحزبية إيمانا مقدسا).
وبينما (إحسان عبد القدوس) وأمه (روزاليوسف) جالسين يستردون أنفاسهم أخيرا بعد المشوار الطويل من أجل الثورة.. يفتحون أبواب صدورهم عن آخرها لتنسم نسمات العهد الجديد.. توالت المفاجآت.