كتب: محمد حبوشة
السادة الأفاضل، أو (The Gentlemen)، مسلسل يعتبر تحفة فنية مكتملة العناصر، من حيث القصة للكاتب الإنجليزي (جاي ريتشي)، والسيناريو والحوار والأداء التمثيلي، وكذلك الإخراج والتصوير في أجواء تناسب أجواء جرائم القتل وتجارة المخدرات.
فقد استطاع الكاتب المبدع (جاي ريتشي)، مؤلف ومخرج (السادة الأفاضل – The Gentlemen) – الذي عرض على منصة نتفليكس – أن يصنع فكرة لها قيمة ومعنى من لاشيء، بحيث كان هو نفسه بمثابة (جنتلمان) في في معالجته الدرامية التي أضفت أجواء رائعة على القصة والسيناريو والحوار، فكان عملا مبهرا.
ركز (جاي ريتشي) فكرته في بناء هذا المسلسل على المستويين الفكري والفني، معتمدا على كلمتي (The Gentlemen)، في بناء شخصيات تتسم بالجدية والتصرف بأعصاب باردة في أجواء الريف البريطاني الملبد بالغيوم، والذي تكسو أرضه طبقات من الثلوج الكثيفة التي توحي ببرودة المشاعر.
قصة المسلسل تتمحور حول (إدوار/ ثيو جيمس) أو (إيدي)، النقيب السابق في قوات الأمم المتحدة UN)) التي تخدم على حدود بعض الدول العربية، وهو الابن الأصغر، للدوق الذي تلى لتوه وصيته وهو يحتضر على فراش المرض، ومن ثم أورث أبنه تركته تجاهلت الأخ الأكبر (فريدي/ دانيل إنجز) ورسى الميراث عليه.
و(إيدي) هنا بحسب قصة (The Gentlemen) لم يرث فقط الأموال والعقارات التي تركها والده، بل إنه ورث صراعات شرسة مع إمبراطورية الحشيش الضخمة – التي لم تكن تعلم عنها العائلة أي شيئ إلا بعد رحيل الدوق الكبير -، ومن ثم كان لازما على (إيدي) أن يخلص عائلته الأرستقراطية من هذا الصراع العنيف، الذي يكاد يعصف بتلك الأسرة في ظل ديون شقيقه الأكبر (فريدي) التي تبلغ حوالي 8 مليون إسترليني.
تتوالى الأحداث في مسلسل (The Gentlemen) في قصة تتسم بالهدوء والبساطة والتصرف بطريقة عقلانية للمقاتل السابق (إيدي) الذي يقع في صراعات متتالية، وقد يبدو لأول وهلة أن القصة تخلو من عناصر يمكن أن تضمن النجاح لأي قصة بمقاييس تعتمد على الأكشن والكوميديا، لكن جاء سيناريو جاذب ومشوق إلى حد كبير.
الطبقة (المخملية) البريطانية
مسلسل (The Gentlemen) يتحدث حول الطبقة (المخملية) البريطانية، التي تعتبر مزيجا من الأرستقراطية وما بين الأغنياء الجدد، وذلك بطريقة عصرية، وظني أنه لا تعني كلمة (The Gentlemen) عند (جاي ريتشي) سوى الإسقاط الساخر على هذه الطبقة، تلك التي كونت ثروات طائلة من تجارة الحشيش والكوكايين، وهى تجارة محرمة دينيا وقانونيا.
(جاي ريتشي) في هذا المسلسل امتلك القدرة على تصوير الجانب المظلم لهذه الطبقة الغارقة في تجارة المخدرات (الحشيش، الكوكايين، المراهانات، غسيل أموال) وغيرها من موبقات ماتزال تعتري المجتمع الإنجليزي حتى يومنا هذا.
وهنا يبدو لي تصوير رائع من جانب (جاي ريتشي) للحالة التي وصلت إليها هذه الطبقة الأرستقراطية أو طبقة النبلاء من تردي معيشي إلى حد كبير، من خلال تناوله لـ 13 دوقا يدخلون صراعا قاتلا حول المنافسة في تجارة الحشيش التي تجلب أمولا طائلة بألاعيبهم الشيطانية التي تعتمد الشر المطلق في كثير من الأحيان.
خيال (جاي ريتشي) الروائي والإخراجي جذبنا نحو هذه العوالم التي تتنافس وتتصارع على هذه التجارة الحرام، وكذلك تعرض لبعض الدوقات المفلسين الذين يحاولون الدخول في اللعبة الخطر كي ينتشلون أنفسهم من شبح الفقر الذي يطاردهم، بل إنه يقف على أبوابهم طوال الوقت.
وتطرق الكاتب إلى العلاقات غير الشرعية بين أزواجهم والخدم، وربما هى محاولة لتعرية عيوب هذه الطبقة التي ماتزال موجودة بقبحها المعروف حتى الآن في نسيج المجتمع الإنجليزي المليئ بالتناقضات المذهلة، وكيف وصل بهم الحال إلى تردي أوضاعهم المعيشية وصولا إلى عام 2024.
نجح (جاي ريتشي) في مسلسل (The Gentlemen)، في رصد العوالم الخفية لطبقة النبلاء الذين ورثوا تلك الثروات القذرة عن الأباء والأجداد، كما رصد هذا التمازج بين طبقة الأغنياء وعصابات تجارة المخدرات، في ظل محاولتهم لإيجاد سند قانوني أو رجال في الدولة المتمثلين في الدوقات لحماية الفساد الذي يمارسونه بشغف.
من خلال المشاهدة المتأنية للمسلسل، لاحظت أن كل حلقات من حلقات المسلسل التسع، يحاول المؤلف إيجاد فكرة جديدة ومبتكرة لصنع مزيد من الإثارة والتشويق، وتطوير الصراع بطريقة منطقية في ثنايا الأحداث التي كانت تسير ببطئ، لكن هذا لايلزم الملل بقدر ما يحفز على مواصلة المشاهدة باستمتاع.
رؤية درامية غاية في الروعة
وهنا لابد لي أن أشيد بالتصوير البديع الذي جعل الكاميرا تتحرك عن طريق (الكلوز أب) والحركة البانورمية في جعل الأحداث تتصاعد بعذوبة غير متوقعة، فمن حلقة لأخرى تجد نفسك مقبلا بطريقة جاذبة لمواصلة رصد الصراعات العاصفة بضرب القيم والأخلاق في سبيل تحصيل أكبر قدر من المال الحرام.
على المستوى الفني أعتبر أن مسلسل (The Gentlemen)، عمل فني متكامل الأركان بطريقة محكمة، عبر سيناريو يعتمد رؤية درامية غاية في الروعة والإتقان، فضلا عن عن أنها تمتاز بالهدوء والانسيابية حتى في أحلك المواقف الدرامية العاصفة التي تفضي إلى القتل بأعصاب باردة.
أجمل مافي مسلسل (The Gentlemen)، أنه استطاع نقل العالم الكلاسيكي إلى عام 2024، وذلك دون وجود هنة أو خلل يضعف السيناريو أو يقلل من الإثارة على جناح الأكشن والكوميديا الساخرة والجنس المغلف بإطار مقزز، وربما الأخير لم يتطرق إليه حتى من بعيد حتى لا يستغرق في تفاصيل تفسد القصة.
ولعل عدم الاستغراق في الأكشن والكوميديا أدي بالضرورة إلى نجاح مسلسل (The Gentlemen) إلى حد كبير، حيث كان (جاي ريتشي) يعمد إلى القفز على هذه التيمة بطريقة ذكية تكسب الأحداث رونقا وبريقا آخاذا لمصلحة المشاهد، وفي نفس الوقت حافظ على الخيوط الدرامية المتشابكة إلى حد التعقيد في سياق متماسك إلى حد كبير.
وكأن لسان حال الكاتب هنا يري أن الكوميديا الساخرة والأكشن الصاخب ربما تسحبه إلى عوالم من العشوائية التي تفسد العمل، ومن هنا حافظ على خيوط الدراما المتوازية، بحيث أبدع في صنع أجواء ساخنة من الإثارة والتشويق أجبرت المشاهد على التعلق بالمسلسل وارتباطه بأحداثه طوال الحلقات.
أما على مستوى البناء الدرامي للأحداث، فسوف نلحظ أنه كان متماسكا إلى الحد الذي جعل الأحداث سريعة ومباشرة، فمنذ الحلقة الأولى أدخلنا (جاي ريتشي) إلى الصراع الذي صنع العقدة بطريقة إنسيابية، معتمدا في صراعه على فكرة (الرمال المتحركة)، بحيث تتحرك الشخصية كي تنقذ نفسها، وإلا تغوص سوف في الرمال الناعمة.
وشيئا من هذا القبيل تحقق في شخصية (إيدي)، الذي كان لابد أن يتحرك بذكاء وروية كي يجد حلولا له ولعائلته، وقد جاءت تصرفات (إيدي) في أتون الصراع بطريقة هادئة تلائم هذه الطبقة الأرستقراطية التي تتمتع بالهدوء ولاننسى أنهم من ذوات الدم الأزرق المعرفون بالبرود الشديد.
وعندما نصل إلى حل العقدة في نهاية المسلسل، سنجد أن (جاي ريتشي) في مسلسل (The Gentlemen)، لجأ إلى في حله لعنصر المفاجأة التي عكست أسوأ ما في هذه الطبقة المخملية، والتي صورها بأنها طبقة مجرمة بالسليقة برعت بطريقة اعتيادية في الاستيلاء على حقوق الغير.
ومن هنا جاء البناء الدرامي ملائما لهذه البيئة التي تتصرف بطريقة (الجنتلمان)، بينما هى الواقع مخربة داخليا على المستوى النفسي والاجتماعي، جراء ذلك الغبار الكثيف الذي يغطيها، وينعكس على تصرفاتها الإجرامية.
ظلامية بعض الشخصيات
ظني أن حبكة مسلسل (The Gentlemen) متقنة ودقيقة للغاية، حيث راعي (جاي ريتشي) كافة التفاصيل التي تفضي إلى متعة المشاهدة التي لاتقاوم في مسلسل مكتمل العناصر الفنية.
(جاي ريتشي) معروف بتنوع شخصياته، ومن هنا لجأ إلى شخصيات ساخرة مثل (فريدي) الشقيق الأكبر لإيدي، وشخصيات أخرى ظلامية مثل (بوبي جلاس) أو (جستون)، أو حتى شخصية (جيف) الخادم والحارس لمزرعة أسرة (إيدي)، وكذلك (بيرس كويجلي)، الذي خلط المفاهيم الكنسية بالجريمة في ثوب يدعو إلى العجب!
وربما تتجسد قمة الظلامية في شخصية (سوزي جلاس/ كايا سكوديلارو)، تلك الحرباء التي تجيد خلط الشر بنعومة الأنثى الفاتنة، وحتى شخصية (إيدي) نفسه تحمل جوانب شريرة في تواز تام مع شخصيته الخيرة التي تعمل لصالح العائلة المخملية التي كادت تغرق في الديون.
ويأتي التنوع أيضا على مستوى الشخصية الواحدة، حيث تحمل ذات الشخصية الخير والشر معا تحت معطف واحد، مثل شخصية (فريدي) الذي كان يبدي نوعا من العاطفة بطريقة فجة وساذجة وخبيثة مع شقيقه (إيدي)، بينما يضمر في داخله حقدا دفينا جراء سلبه ثروته التي كانت ستغطي على ديونه بسبب اللهو والاستهتار.
وأشهد أن الحوار في مسلسل (The Gentlemen) كان على مستوى عال جدا، بحيث يناسب هذه الطبقات الأرستقراطية على مستوى الهدوء والبرود الذي يتمتع به طبقة النبلاء من الإنجليز، فهذه الطبقة معروف أنها حذرة جدا في طريقة حديثها، وتهتم بشكل كبير بشكلها الظاهري لذا تجد مسحة من التعالي والغرور على جباههم، فضلا عن إظهار الجبروت الذي يبرر لهم الحصول على المال.
الأداء التمثيلي جاء رائعا جدا، فكل شخصية تعرف حدودها، وما يحيط بها من صراعات داخلية وخارجية، كما جاء في أداء (ثيو جين، كايا كايا سكوديلارو، دانيل إنجز)، وكذلك (سبوسيتو/ بيرس كويجلي) الذي قدم شخصية الذئب في ثوب حمل وديع يتقلب على سطح ساخن من الشر، وهو ما يظهر في تبريره لأفعاله الإجرامية.
وبالنسبة للإخراج، فقد قدم (جاي ريشي) في مسلسل (The Gentlemen)، واحدا من أعماله الرائعة برؤية خاصة جدا، حيث تحكم في الممثلين بطريقة احترافية، لهذا جاءت خلطته الكلاسيكية في ثوب عصري ينم عن موهبة فذة، وقدرة على صناعة أحداث محكمة من أول دقيقة حتى النهاية.
وإذا ذهبنا في النهاية إلى التقنيات المستخدمة على مستوى (التصوير، حركة الكاميرا، الكادرات، الإضاءة، الموسيقى)، كلها عناصر سنجد براعة كبيرة في استخدامها، وهو ما صنع ذلك الزخم الموحي بمسلسل بالغ الروعة وقمة الاحترافية على كافة المستويات الفنية.
باختصار قدم (جاي ريتشي) في مسلسه (The Gentlemen)، تحفة فنية تحمل جوانب من السحر والتشويق والإثارة التي تؤكد عبقريته في صناعة دراما حقيقية تحفز على المتعة، على جناح خيال خصب ينتمي إلى عالم مليئ بالتفاصيل المبهرة الخالية تماما من الشوائب التي تنتشر في درامنا العربية الحالية.