بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
الأسبوع الماضي استفزت مشاهد (بلطجي) الإسماعيلية مشاعر المصريين وأثارت غضبهم من الفيديو الذي تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي واحتل التريند ليومين على منصة (اكس).
شاب يحمل سلاحاً أبيضا طويلا ويضرب به آخر في أحد صالونات الحلاقة في الإسماعيلية، يحاول بعض المتواجدين في الصالون تهدئته فينالهم نصيب من بلطجته ليتركوا مقاعدهم مهرولين من دون استكمال الخلاقة خوفاً وهلعاً.
ينفرد الـ (بلطجي) بخصمه الذي يعمل في المحل ويضربه ضرباً مبرحاً بسلاحه الأبيض، مشاهد ليست جديدة علينا، شاهدنا مثلها مراراً في مسلسلات تليفزيونية وأفلام سينمائية، شاهدناها تمثيلاً ليمتد تأثيرها إلى حياتنا ويتحول واقعاً.
فنسمع من وقت لآخر عن أعمال بلطجة في هذا الشارع أو ذاك، وفي هذه المدينة أو تلك، مشاهد متنقلة للبلطجة في ربوع مصر الأمن والأمان والسلام والتسامح، وشوهها بعض أبنائها باسم الفن.
قدموا مشاهد الـ (بلطجي) بأشكال مختلفة، وقلدهم شباب فاقد الوعي هش القيم، ولكنه معذور، فهم النجوم وهو الهدف بالنسبة لهم، وكلما ازداد تأثيرهم عليه احتفلوا زاعمين أنهم أصابوا الهدف وحققوا النجاح الذي لم يحققه غيرهم، والدولة لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم عن بلطجية الفن.
ومع بلطجية الشوارع تتخذ الإجراءات اللازمة عندما تتحول أفعالهم إلى تريند يهدد السلم الاجتماعي، وكأنها لا تدرك أن لكل فعل رد فعل، ولا تدرك أن القضاء على الظواهر السلبية يكون أساساً بالبحث في جذورها والقضاء على مسبباتها، ولا تعي أن الفن هو الوسيلة الأكثر تأثيراً على النشء.
وبدلاً من أن يستغل المسؤولون عن الإنتاج في مصر الفن لزرع القيم النبيلة وتقديم سير الأبطال والنماذج المشرقة في تاريخنا وحاضرنا، فإنهم يزرعون ببعض ما ينتجون القيم الهدامة ويفسدون الشباب ويتجاهلون الرموز.
نماذج متعددة للـ (بلطجي)
خلال الموسم الدرامي الرمضاني شاهدنا نماذج متعددة للـ (بلطجي)، يختلفون في أسماء الأبطال والحبكات الدرامية ويتفقون في الهدف، وكأنهم يستلهمون أفكارهم من مصدر واحد، شاهدنا (العتاولة، كوبرا، بيت الرفاعي، حق عرب، صيد العقارب، نعمة الأفوكاتو).
بلطجة تواجه بلطجة، وعنف يولد عنفاً، سفك دماء بأساليب متشابهة، علاقات مشبوهة وإتجار في الممنوعات وتهريب آثار وسرقة وخطف وارتكاب لكل الموبقات.
والغريب أن صناع هذه الأعمال يجملون سلوكيات بطلهم ويقدمونه في صورة ابن البلد الشهم، البار بوالديه السند للضعفاء، الحريص على إعادة الحقوق لأصحابها، المدافع عن جيرانه، الحارس للقيم.
وكل ذلك يفعله في مواجهة قوى الشر التي تسعى لاستغلاله أو التي ورطته في جرائم لم يرتكبها، وسلاحه الوحيد هو ذراعه وقوته التي يستطيع بها ضرب الشريرين وعصاباتهم بصرف النظر عن أعدادهم.
فهو الخارق الساعي لمحو الشر بالشر، والمتصدي للبلطجية بالبلطجة، والقاتل لأعداد منهم من دون أن يرف له جفن، ولم لا، فهو الفتوة الشهم ابن البلد!
بلطجية الفن يستخدمون كل الأسلحة الممكنة للنيل من (أعدائهم)، القوة البدنية الخارقة، الأسلحة البيضاء التي انتشرت بفضلهم في شوارع المحروسة، الأسلحة النارية، إشعال الحرائق، وكل ذلك والقانون غائب، فوجود الشرطة في معظم المسلسلات هامشي، ولو وصل رجال البوليس خلال معركة بين البطل البلطجي وأعدائه.
إما أنهم يلوذون بالفرار، وإما أن تتوقف المعركة ويلتزم الجميع تضليلهم ليعودوا كما جاؤوا، وهو ما يظهر العجز الرسمي أمام سيطرة الـ (بلطجي) على الأحياء التي يعيشون فيها أو الأماكن التي يترددون عليها.
تجمّيل صورة البطل الـ (بلطجي)
بعض المسلسلات تظل طوال حلقاتها تجمّل في البطل الـ (بلطجي)، وتمنح الفرصة له للندم في الحلقة الأخيرة مثل شخصية (أحمد رزق) في مسلسل (بيت الرفاعي) الذي اعترف بكل جرائمه دفعة واحدة وطلب من غريمه وابن عمه (أمير كرارة) أن يربي هو بنفسه ابنه على القيم التي تربى عليها!
نفس الأمر حدث في مسلسل (العتاولة) حيث اختار (طارق لطفي) أن يتخلى عن السرقة والبلطجة مثل أخيه الذي اكتشف أنه ليس أخوه (أحمد السقا) وافتتح مطعماً سعياً وراء اللقمة الحلال!
وفي (حق عرب) لم يختلف الأمر كثيراً، فعرب (أحمد العوضي) الذي أحرق أحياءً قرر الابتعاد عن الحرام بما في ذلك ثروة والده (ليأكلها بالحلال).. وعلى نفس النهج سار غيرهم من أبطال المسلسلات المشابهة، وكأن ما تم زرعه من قيم هدامة في عقول المشاهدين على مدى 29 حلقة يمكن محو آثاره السلبية في حلقة واحدة!!.
ناهيك عن مساحة التدخين التي تغطي مساحة المسلسل كاملة وخاصة في (حق عرب) و (العتاولة)، وهو ما يناقض صورة البطل الرياضي الخارق!
البلطجة ليست جديدة على الدراما والسينما، فهى ظاهرة عالمية، ابتدعتها هوليوود ونشرتها أمريكا عالمياً، ولكننا كنا في الماضي نجد شخصية تمارس البلطجة وقد نجد مسلسلاً يجملها.
ولكن هذا العام وجدنا الأمر زاد عن حدود احتمال المشاهد، فهذه النوعية تلاحقه من قناة لأخرى، ومن منصة لأخرى، بل وعدد من هذه الأعمال من إنتاج شركات تعمل تحت جناح ولحساب (المتحدة للخدمات الإعلامية)، وهى الشركة الرسمية المسؤولة عن القنوات ومنصات العرض المصرية.
وكنا ننتظر منها أن تناهض هذه النوعية من الأعمال التي تهمش دور الدولة وتكرس قيم البلطجة الفردية بدلاً من أن تنفق وتعرض هذا العدد من الأعمال.
(محمد رمضان) وظاهرة الـ (بلطجي)
بالأمس القريب حمّل الكثيرون (محمد رمضان) مسؤولية انتشار ظاهرة الـ (بلطجي) في الشارع المصري بسبب أعماله، وكثيرون كانوا يحمّلون السبكي مسؤولية انتشار هذه النوعية سينمائياً، لنجد أنفسنا اليوم أمام نماذج مستنسخة من محمد رمضان.
وأصبح العديد من نجومنا يسيرون على نهجه، وكأنه صار صاحب مدرسة يتخرج منها كل عام نجوم جدد ليسيرون على نفس الخط بعد اكتشافهم أنه الطريق الأسهل للتواجد على شاشة رمضان.
ونفس الأمر ينطبق على السبكي سينمائياً، وآخر الأفلام التي تنتمي لهذه النوعية (شقو) بطولة (عمرو يوسف ومحمد ممدوح وأمينة خليل ودينا الشربيني)، والذي تم عرضه في عيد الفطر ولا يزال معروضاً حتى الآن.
لا نفهم لماذا تم خلط الأوراق وغيّرت الشاشة المفاهيم، فارتبطت (الجدعنة) بـ البلطجة)، علماً أن ابن البلد الشهم ليس بالضرورة أن يكون بلطجياً، ولا أن يلغي دور الدولة.
وقد شاهدنا في نفس الموسم الرمضاني الماضي مسلسل (المعلم) بطولة (مصطفى شعبان وسهر الصايغ) والذي تدور أحداثه في أجواء شعبية، ولكن البطل فيه لم يمارس البلطجة على أعدائه ولم يلغ دور الدولة، بل استخدم عقله واتفق مع إدارة مكافحة المخدرات لايقاع أكبر عصابة للاتجار في المخدرات.
كما أن بطله لم يقبل باختطاف أصحابه لابنة عدوه فأطلق سراحها، وجاءت أحداثه واقعية ونهايته منطقية من دون جموح فكري ولا شطط فني!