بقلم الدكتور: كمال زغلول
تعلمنا في دراستنا لفنون (المسرح)، أن العروض المسرحية في أساسها طقوس، تقام لديونيسيس وتطورت إلى عروض تمثيلية في اليونان القديمة، وبهذا يكون (المسرح) خرج من المعبد.
ولكن إذا ما بحثا في مصر القديمة، سوف نجد أن (المسرح) المصري القديم لم يخرج من المعبد، بل هو فن مستقل بذاته، يعتمد على مفاهيم فن التمثيل، وليست مفاهيم الدراما الخاصة بوضعها أرسطو.
بل أن نقاد (المسرح) في الغرب، رفضوا فكرة خروج (المسرح) من مصر القديمة، حتى يصنعوا تاريخ مسرحي لليونان، كما فعلوا مع التاريخ العلمي المصري القديم، الذي سرق ونقل لليونان مع دخول الإسكندر مصر.
ولقد تعلل بعض نقاد الغرب الذين عرفوا حقيقة (المسرح) المصري القديم بأنه مسرح ديني، أو طقس ديني، وتبعهم في ذلك معظم النقاد في مصر، ولكن، الكثير يتكلم عن المسرح ثرثرة بدون فهم إلي معنى ومفهوم للمسرح، والغرض من (المسرح).
وما الفرق بين الطقس، والعرض المسرحي، والاحتفالية، وننوه أن (المسرح) في مصر القديمة نشأ مستقلا عن الطقوس أو الاحتفالات، وهذا ما سوف نوضحه، وبداية ننوه بأن الأشكال الثلاثة (العرض، والطقس والاحتفالية ) يستخدمون الفنون، ولكن لكل شكل من الأشكال الثلاثة استخدام للفن بطريقة تؤدي للهدف المنشود منه.
ونبدأ بتحليل الأشكال الثلاثة متخذين من شخصية (أوزيريس) مدخلا لنعرف أن فن (المسرح) في مصر القديمة كان فنا مستقلا، ونبدأ بالطقس، ونوضح أن الطقس وهو نظام وترتيب يستخدم في الخدمة الدينية، وهو نظام تعبدي، وهو يستخدم الأزياء والموسيقى ، والتشكيل.. إلخ.
وهذا ما يخدع البعض في كونه فنا مسرحيا، ولكن في الحقيقة أن استخدام مفردات العرض المسرحي داخل ممارسة اعتقادية غير دال على كونها عروضاً مسرحية، ولكن الإنسان يستخدم تلك المفردات لصنع واقع تأثيرى للشخص الممارس لهذه الطقوس.
مفردات لصنع واقع تأثيرى
هذا الواقع قد يكون روحانياً كالطقوس الدينية، فنجد أن الكاهن مثلا يقوم بلبس زي معين، ويتلو تلاوات معينة، ومعه مساعدين يلبسون أزياءً معينةً، ويقومون بعزف بعض القطع الموسيقية، وينشرون البخور في المكان، ويحدث هذا لكي يشعر المتعبد في الطقس بحالة من الروحانية.
فالكاهن، يحاول التأثير على المريدين ويصنع لهم حالة إيهاميه (يقال عنها روحانية) وبالمناسبة المريدين ليسوا مشاهدين لعرض، بل هم في حالة عبادية، وأن هذا ليس عرضاً مسرحياً بل هو مشاركة عقائدية، قائمة على استخدام المفردات الفنية لتكوين الحالة النفسية للطقس.
ولذلك يستخدمها الكاهن ومساعدوه؛ لما لها من قدرة على خلق هذا الجو الطقسي، ونحلل ذلك، بأن الكاهن يحاول التأثير على الحواس الإنسانية، حتى يشعر المريدين أنهم في جو روحاني.
فمثلا استخدام الموسيقى والتراتيل، فهما للتأثير على حاسة السمع، والإضاءة والحركات الراقصة، تأثير على حاسة البصر، وبخور وروائح عطرية للتأثير على حاسة الشم.
فهنا لا يوجد تمثيل، بل استخدمت الفنون لخلق واقع يوحي بالروحانية المزعومة، كما أن المشاركين في الطقس ليسوا جمهورا بل متعبدين، ولهذا فإن استخدام المفردات الفنية لها هدف يختلف كل الاختلاف عن فنون العرض المسرحي، وكان هذا الطقس يؤدى إلى (أوزيريس) في العبادات المصرية القديمة.
وعن الاحتفالية فهي مناسبة عامة، يحتفل بها جموع من الناس، وهي ترتبط بمناسبات اجتماعية أو اعتقادية، وفي تلك المناسبات يحتفل بها العديد من أفراد الشعب، ويتم التعبير عنها من قبل هؤلاء الأفراد، وقد يقوم بعض الأفراد بتصوير بعض حالات الشخصية المحتفل بها.
ومثال ذلك الاحتفالية المجسدة لآلام (أوزيريس)، وإحياء لذكرى آلامه ومعاناته، كان المصريون يشتركون في مواكب وقد توجوا رؤوسهم بتيجان نباتية مصنوعة من الشوك المجدول في هيئة قبة.
ولكن توجد سيكولوجية خاصة بالاحتفالية، فهي تعبير ناتج عن الوجدان الشعبي وتأثره بشخصية حياته، وهذا التأثر نتج عنه مجموعة من الإدراكات، أدت إلى إنتاج الشكل الاحتفالي في أسلوب فني، إذ أن الشخصية غائبة، فلم يرها الشعب وتربي الوجدان الشعبي على تلك الشخصية.
تأثير وجداني على المشاركين
ولذلك فهي مُدركة ذهنيا وليس حسيا، والتعبير عنها شعوريا، ولهذا نجد للشخصية تأثير وجداني يؤثر على المشاركين، هذا التأثير يظهر في صورة شعور جمعي للمشاركين ينتج عنه تعبير احتفالي.
وبالطبع هذا الاحتفال الجمعي يؤدي إلى متعة احتفالية ن جمعية ، وهذا ما نراه في احتفالات الأولياء والقدسين، والتعازي الشيعي، فهل شعر فرد بأن هذا هو (المسرح)؟
ومن تحليل الطقس والاحتفالية نلاحظ أن فكرة (المسرح)، قائمة على علاقة بين ممثل وجمهور، وجميع عناصر العرض المسرحي من (موسيقي، غناء، تشكيل، رقص) تكون موظفة لصالح الأداء التمثيلي، ولها أبعاد حسية تربط الممثل بجمهوره.
وهي قائمة على علاقة جمالية بين الممثل والمُشاهِد، أساسها (الخيال والتصورات، والحس ، والذهن ، والشعور).
ونوضح تلك العلاقة، فعند اختيار الممثل للنص أي الموضوع فإنه يعيش في عالم من الخيال والتصورات، يدركه ذهنيا، هذا الإدراك الذهني يؤدي به إلي المدركات الحسية.
ومن الإدراك الحسي ينطلق إلي الشعور الذي ينطبع في داخله، ويظهر في إدائه الحى ليلتحم بالمدركات الحسية عند المشاهدين، وبهذا يستقبل المشاهد العرض من خلال حواسه.
ويدخل المشاهد بعد ذلك في مرحلة الإدراك الذهني للعمل، الذي يؤثر فيه شعوريا، فتحق المتعة الجمالية التي هي هدف العرض المسرحي، وهذا تفسيراً وتحليل للعلاقة الجمالية التي تربط الممثل بالمتلقي، أثناء العرض المسرحي.
وهي توضح العلاقة الحسية بين الممثل والمتلقي، من خلال المكان الذي يجمعهما، واللغة المسرحية (العرض المسرحي) المتبادلة بينهما، وقد كان يمثل عرض الأسرار الخاص بأوزيريس في مصر القديمة، بشكل قائم على فن التمثيل.
وبهذا نجد أن الأشكال الثلاثة ظهرت في مصر القديمة، وكان (المسرح) شكل مستقل، فلم يخرج من طقس أو احتفالية، بل كان عرض تمثيلي قائم على علاقة جمالية تأثيرية بين الممثل والمشاهد.
وبهذا تكون مصر القديمة هي من أوائل الحضارات التي أسست فن (المسرح)، فالمسرح في مفهومه العام، هو مكان يعيش فيه أفراد في حياة عامة بينهم أحداث، والكلمة مستخدمة في الحياة العامة.
كأن يقال (القرية مسرح طفولتي)، أو مسرح العمليات الحربية، فهو محدد جغرافيا وزمانيا، وعندما نستخدم الكلمة كمصطلح فني، فتكون دالة على موضوع تمثيلي، له مكان جغرافي وزمان ، وقعت فيه موضوع المسرحية التي سوف تمثل.
وذلك من خلال العلاقة الجمالية بين الممثلين والمشاهدين، وبهذا نكون وضحنا نشأة العرض المسرحي في مصر القديمة.