بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
كنت أسير بسيارتى بصحبة أحد الأصدقاء على الطريق الدائرى في طريقنا من أكتوبر بمحافظة (الجيزة) الى المعادى لزيارة مريض.
ولاحظت أن العمارات في المسافة من وصلة الطريق السياحى إلى مخرج الطريق الى المنيب قد تم طلاؤها بألوان متدرجة بين الأصفر والبرتقالى والبنى الفاتح في أشكال هندسية بسيطة وبشكل يكاد أن يكون موحدًا.
وبعض العمارات تتحلى بصور ضخمة لشخصيات من مصر القديمة التي يطلقون عليها خطأً (الفرعونية).
أعجبتني الفكرة وشكرت في داخلى لمحافظة (الجيزة) هذا السعي إلى تجميل الطريق وإضافة بُعدًا جماليا وثقافيا له يخدم السياحة، ويقلل من نسبة القبح التي نراها في معظم شوارعنا.
قلت لصديقى: و الله حاجة جميلة وتفرح، نظر لى صديقى شذرا ولكنى أكملت: لازم لما نشوف حاجة حلوة نقول انها حلوة و نشكر المسئولين عنها، لازم المسئول يحس بالتقدير وإلا تساوت عنده الأمور، فيصيبه الاكتئاب مدام ما يفعله من خير لا يجد من يقدره.
وأنا أرى أن محافظة (الجيزة) تبذل مجهودا كبيرا في تجميل شوارعها وطرقها لابد من شكر مسئولي الأحياء فيها عليه.
قال صديقى في صوت مختنق وكأنه جريح: اسكت بلاش تستفزني!
قلت في نفسى بالفعل لابد أن أسكت فصديقى – الذى حدثتكم عنه سابقا – ساخط دائما، لا يكف عن انتقاد كل شيئ و أي شيئ، فهو لا يعجبه العجب أو الصيام في رجب كما يقولون.
ليس لأنه ناقم أو حاقد والعياذ بالله، و لكن لأنه يسعى إلى الكمال في كل تصرفاته وسلوكياته ويفرض هذا على المحيطين به، ويفترض ذلك في كل الناس، فلا يعجبه الحال المايل حتى ولو كان مقدار الميل غير ملحوظ .
الجمال في كل شيئ
وهو يقدّر الجمال ويتمنى أن يرى الجمال في كل شيئ، و برغم حبى للجمال مثله إلا أننى أتغاضى عما لا يعجبنى، ولكنه يثور لو رأى نقصا ولو بسيطا.
فجأة انفجر صديقى قائلا: شايف؟،عاجبك كده؟، شايف صورة كليوباترا؟
كانت على الطريق لوحة ضخمة لتمثال للملكة كليوباترا، وبجوار التمثال اسمها مدونا باللغة الإنجليزية.
قلت له: مالها الصورة؟ حلوة جدا.
قال في سخط: الصورة اللى حضرتك شايفها حلوة دى كارثة!
قلت له: وما الكارثة في صورة لتمثال كليوباترا؟
قال في حدة: لأنهم مختارين تمثال من الحجر الأسود دونا عن كل تماثيل كليوباترا لعرضه على الطريق للسائحين، ألا تعلم أنها هناك إدعاء بأن الملكة القديمة من أصول افريقية؟، وهذا الادعاء وراءه حركة عالمية تسعى الى سلبنا تاريخنا كله ونسبته إلى أصول أفريقية غير مصرية.
ألا تذكر الضجة التي ثارت عندما قدمت منصة (نتفليكس) فيلمها الوثائقى عن كليوباترا ونسبتها إلى أصول أفريقية؟
قلت له: نعم تذكرت الآن، و تذكرت أيضا أن كثير من علماء التاريخ و الآثار تصدوا لهذا الفيلم في وقته، بل طالب البعض بمنعه.
قال: وضع هذه الصورة قد يدفع السائحين إلى الاعتقاد بصحة ماجاء بالفيلم، وبالتالى صحة ما تروجه حركة المركزية الأفريقية حول نسبة حضارتنا القديمة إلى غير المصريين.
قلت له: ربما كانت الصورة نتيجة لخطأ غير مقصود أو سهو، ولكن هذا لا يقلل من مجهودات محافظة (الجيزة).
قال في عنف: مجهودات؟ أنا لو كنت مسئولا لحاسبت موظفى هذه المحافظة حسابا عسيرا، فالتجميل على السطح يخفى في أسفل ما هو أولى بالإصلاح، أنظر الى زحام السيارات في نقطة إلتقاء الطريق السياحى بالطريق الدائرى.
لو كلف موظفي محافظة (الجيزة) أنفسهم بتغطية الحُفر وتسوية الطريق بعد أعمال الإنشاءات لما تعطلنا في الطريق، إنزل من الطريق الدائرى وسر تحته وستجد في مناطق أكواما من التراب و بقايا البناء و شوارع تمتلئ بالحفر والمطبات.
حاول أن تسير أسفل محور (صفط اللبن) على سبيل المثال وسترى ما ستعجز عن وصفه من إهمال وعشوائية وطرق مدمرة يستحيل أن تسير فيها.
قلت: ربما ما تقوله صحيح، ولكن سيأتى الدور عليها ذات يوم.
التطوير إلى الأسوأ
سخر منى قائلا: ذات يوم؟!، التجميل والتطوير لا يتم إلا في الطرق التي يسير فيها المسئولين، و مع ذلك فهذا التطوير إلى الأسوأ.
قلت له: حرام عليك، ليس لهذه الدرجة، أنظر إلى طريق النيل المتجه من البحر الأعظم إلى فندق الشيراتون كيف صار، سور جديد للكورنيش، به لمبات إضاءة.
قال ل : تم اقتلاع لمبات الإضاءة المثبتة في سور الكورنيش وبعضا من رخام ذلك السور.
قلت له: و هل هذا ذنب المحافظة؟ هى ارادت التجميل!
قاطعنى: التجميل يجب أن يكون وظيفيا، أي يخدم المواطن أولا، فما هى ضرورة وضع لمبات إضاءة في أسفل السور؟، هل وضعوا تلك اللمبات لتضيئ أحذيتنا في بلد يعانى من انقطاع التيار الكهربى؟
بل ما الفائدة من وضع لمبات فى أرضية الرصيف في شارع مراد، هل وضعوها لإنارة السماء؟، وما الغرض من إعادة تجميل تمثال (طه حسين) أمام فندق الشيراتون لثالث مرة خلال سنوات قلائل؟
كان التمثال السيئ شكلا وحظا يقف فوق قاعدة حجرية، وفجأة أنزلوه من فوق القاعدة و تركوها فارغة ووضعوا التمثال بجوارها، والآن يحيطون الميدان بسياج ربما لوضع القاعدة فوق التمثال.
قلت له: لا تبالغ فبقية الشارع وحتى حى العجوزة يزخر بالجمال.
قال لى: أي جمال في نزع أشجار معمرة اشتهرت باخضرارها الدائم، ووضع نخيل يعانى الهزال، و بعضه توفى الى رحمة الله قبل أن يمر عليه عام، هل هذا هو التطوير والتجميل؟
قلت له: ربما أزالت المحافظة الأشجار الضخمة لتوسيع الطريق.
قال: يا ساذج هل تسعى محافظة (الجيزة) حقا إلى توسيع الطرق؟، إذا كان ما تقوله صحيحا فلماذا بنت (أكشاك) في منتصف الطريق المتجه إلى سقارة، في منطقة تزدحم بالبازارات السياحية وتمتلئ باتوبيسات السياحة التي تسد الطريق؟
أين سيقف أتوبيس السياحة
ألم يكن الأولى بها أن تستغنى عن أحلامها الاستثمارية لتريح المواطنين من الاختناق الدائم الذى يصيب كل المتجهين إلى سقارة أو محور ترسا؟
وهل فكر العبقرى صاحب فكرة الأكشاك في المواطن البسيط الذى لا يجد مساحة للسير في الشارع؟، و هل فكر أيضا في السائح وكيف يصل إلى تلك الأكشاك؟، وأين سيقف أتوبيس السياحة من أجل الشراء؟
يا صديقى تعالى معى إلى طريق زويل بأكتوبر لترى بنفسك كيف تتنافس الأحياء التابعة للمحافظة في تعذيب المواطنين، لقد أقاموا بطول الطريق طريقا فرعيا يفصله عن الطريق الرئيسى رصيف و زرعوه، ووضعوا فيه أعمدة الإضاءة.
قلت له مندهشا: و ما وجه الاعتراض؟
قال: لأنك إذا خرجت من مسكنك ستضطر إلى السير في الطريق الفرعى لمسافة طويلة لتجد (فتحة) تستطيع منها الدخول الى الطريق الرئيسى كى تستطيع الدوران إلى الخلف أو تدخل شارعا يقع على شمال الطريق !!
ستسير أكثر من 2 كيلو محاصرا برصيف لا داعى لوجوده أصلا ولا ضرورة له سوى زيادة المصاريف في بلد يعانى من الديون، و زيادة استهلاك البنزين الذى تكوينا الحكومة بزياداته المتوالية.
وزيادة استهلاك إطارات السيارات التي نستوردها من الخارج بالعملة الصعبة، التي أصبح أسمها العملة الصعبة جدا أو المستحيلة، وكانت النتيجة أن معظم السيارات تسير عكس الاتجاه في ذلك الطريق الفرعى .
قلت له: ربما كان مصنوعا للسير عكس الإتجاه، و قبل أن يرد قلت وأنا أتنفس الصعداء: الحمد لله وصلنا.