بقلم: محمد شمروخ
كالعادة في أول أسبوع من (رمضان) لا يمكن الحكم بشكل قاطع عن الأعمال على المسلسلات التى جرى الإعداد لها طوال العام الماضى، كذلك أعانى من اللخبطة المعتادة بتداخل أحداث المسلسلات في بعضها البعض واضطراب المتابعة والانقطاع في الأحداث، بسبب كثرة الفواصل الإعلانية وحيرة الريموت كنترول بين القنوات!
لكن وجدتها فرصة لمتابعة الإعلانات نفسها مستسلما لحقيقية أن الإعلانات في (رمضان) أهم من المسلسلات، ليس فقط لأن الأعمال الدرامية تنتج خصيصاً من أجل جذب الجمهور للإعلانات.
لكن لأننى اكتشفت حقيقية قد تبدو مريرة وهى أن الإعلانات أكثر تعبيراً عن الواقع المصري أكثر من أى مسلسل مهما يلغ من محاولات من المؤلف والسينارست والممثل في كل عمل درامي.
فالإعلانات في (رمضان) قدمت – وإن كان دون قصد – صورة حقيقية لواقع المجتمع المصري بكل تناقضاته الصارخة ومن الأرض مباشرة بدون أى إضافات أو مكسبات طعم ورائحة، بشكل يفوق أى مسلسل يمكن أن يقدم صورة عن الواقع.
فأنت ترى إعلانات عن مشروعات سكنية فارهة تنتقل بك إلى واحات من السحر والخيال تحققت في غمض عين على أرض الواقع المصري.
وأنت ترى على شاشة التلفزيون بعينيك هاتين، بحيرات صناعية، مساحات خضرة تتخللها الأشجار الوارفة، شوارع خالية يرمح فيها الخيال وأرضها نظيفة تلحس عليها العسل، مطاعم وكافيهات ولا في الأحلام، نوادى وملاعب.. اللهم لا حسد.
المهم أن السادة من نجوم التمثيل السوبر يقدمون لك في الإعلان في (رمضان) صورا حية من أرض الواقع المعاش، هذه المدن والأحياء والكمباوندات والمنتجعات سواء في القاهرة أو الجيزة أو في الإسكندرية أو جبل الجلالة، مدن حقيقية وليست ذكاء اصطناعيا.
يبقى ده واقع ولا مش واقع؟!
الواقع يقول إن هناك فئات من المصريين لديهم القدرة على الشراء ودفع مقدمات ودفعات حجز أقلها 2 مليون جنيه غير الدفعات ربع أو نص السنوية، غير دفعة التعاقد، غير التسليم، غير التشطيب، غير اللاندسكيب، غير وغير وغير!.
القصور والفيلات والشقق
ومستعد للرهان – واللى تقول عليه – بأن هذه القصر والفيلات والشقق والاستديوهات، كلها تم حجزها ودفع مقدماتها قبل ما يخلص شهر (رمضان)!
ده نظام قر بقى؟!
هو أنتم قاطع فيكم حسد ولا قر؟!
هنا بقى الواقع بجد، يعنى خد بالك إن المسلسلات لما تصور لك مشاهد لأحداث في مثل هذه الأماكن، فهى تكمل الأجزاء التالية من الإعلانات بعدما تسكن العائلات في هذه المناطق.
فهكذا سبق الإعلان الدراما في (رمضان)، وقدم صورة حية من الواقع تتكرر أمامك مع كل فاصل وبنفس نجوم المسلسلات الكبار تقريبا، والنجم يظهر بشخصيته الحقيقية وليس مؤدياً لدور يجسد فيه شخصية في مسلسل.
والصورة الأكثر واقعية ولكنك لابد أن تراها في الخلفيات، هى سيطرة كبار رجال الأعمال على عالم التمثيل، حيث تبدو العلاقات وثيقة جدا جدا بين أصحاب المليارات من مالكى الشركات وبين نجوم الدراما.
ومن حق الكبار يدلعوا نفسهم بفلوسهم.
بس ياريت الإخوة علماء الاقتصاد والاجتماع والمفكرين يركزوا في أن إعلانات المدن والأحياء والكمباوندات والمنتجعات الفاخرة في (رمضان) يتلوها مباشرةً، إعلانات عن طلب تبرعات لعمل وصلات مياه نقية أو حفر بئر أو زرع نخلة للمساهمة في تقليص مظاهر الفقر في المجتمع المصري!.
هارسود.. فقر؟!
بعد كل ده فيه فقر في مصر؟!
اسكوت.. هو أنت ما سمعتش.. ما شفتش.. ما فهمتش؟!
بس مش عارف ليه مستهيألى إن قصة الاقتران مقصودة وعامدة مستعمدة وأن تكون في نفس الفاصل الإعلانى، فبعد إعلانات المنتجعات الفاخرة، تأتى إعلانات تبرعاتك وطلب صدقاتك وأموال زكاتك لتوزيعها على الفقراء والمساكين.
الذين يعيشون عيشة يصدق عليها قول الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام عمرو ابن الأحمر الباهلى:
تمشي بأكناف البليخ نساؤنا
أرامل يستطعمن بالكف والفم
نقائذ برسام وحمى وحصبة
وجوع وطاعون وفقر ومغرم.
يا واد تكونش صدفة؟!
يعنى الناس دي بتغيظنا مثلاً؟!
ولا بيقولوا لنا إن العالم ده عمره لا حس ولا بيحس ولا هيحس بكم؟!
الصورة الحقيقية للواقع
ولا يمكن غفلة منهم وجاء التتابع بين الإعلانين المتناقضين من تدبير ربك، حتى تتضح الصورة الحقيقية لواقع وحاضر ومستقبل الأجيال في بلادى التى لم تجد من يحنو عليها إلا في الأحلام!
واقع مؤلم جداً، لكنه معبر جدا وذا دلالات خطيرة جداً جداً.
وإياك أسمعك تردد أن هذه أرزاق وكل برغوث على قد دمه!
أولا: أنا معاك أن المثل ده نفسه معبر جدا، فالبراغيث هى أنسب حشرات للوضع المزرى لأن مهمتها الأساسية في الحياة هى مص الدم وتنغيص الراحة!
فالدماء التى امتصها كبار رجال الأعمال من أصحاب المليارات، لم تكن من نتاج عرقهم ولا كان منبعها من عروقهم!
الإعلانات قدمت لنا دون قصد كيف اضطربت معايير توزيع الثروات في مصر، فهذه الأرض لم تكن ملكاً لأحد دون الآخر حتى يتصرفوا فيها وكأنها ميراث آل إليه من أجداده.
فما زاد في منتجعات الأثرياء هو نفسه الذي نقص من مجتمعات الفقراء والمعدمين!
أشرحها لك:
خلال الفترة الماضية التي سبقت (رمضان) وقعت أزمات عديدة، سكر، دولار، ذهب.. إلخ إلخ.
حيث كان السكر يختفى ويظهر بلا مبرر وتتضاعف أسعاره بلا ضابط ولا رابط.
أما الدولار فقد بلغ العنان أيضا وكذلك تبعه الذهب.
وأنت يا مسكين تقف فاغرا فاك لا تعرف كيف ولا لماذا ولا إلى متى؟!
لكن الدرس المستفاد من تلك الأزمات أن هناك أموالاً تعلو وتهبط، أما أنت فلم تحتفظ بنعمة محلك سر، بل كان الهبوط هو المكتوب عليك.
ومعنى الهبوط هو أن هناك صعوداً مقابلاً، وحل المعادلة يقبع في الجانب الخفى من المعادلة وهو أن هناك صعوداً لا تراه، والمحصلة أن المال الصاعد إلى الفئات المتحكمة في عصب الحياة الاقتصادية، أكثر من المال الهابط منها.
لأنها لا تسمح بدورة المال أن تسير بحرية، فتقوم بتحويل الأموال التى تصعد إليها إلى دولار وذهب وسندات للعمل على تجميدها لصالحها ولا تستفيد منها إلا هذه الفئات في تعاملاتها مع بعضها البعض لإحكام غلق الدوائر على الطبقات العليا فتستمر ضاغطة على ما دونها من طبقات باستنزافها بالأزمة تلو الأزمة.
يعنى: المليونان وكام ميت ألف تعنى مبلغاً، يزيد قليلا عن عشرين ألف جنيه.
يعني بعض هؤلاء الناس في مصر، يعيشون حياتهم على الدولار يقبضون ويستثمرون بالدولار ويدخرون بالدولار، لكنهم يأكلون بالجنيه ويشترون بالجنيه ويدفعون الفواتير بالجنيه.
وادفع في السكر، وادفع في الزيت، وادفع في العيش، وادفع في الذهب، وادفع في الدولار.. وادفع وادفع وادفع؟
والنهاية: إعلانات عن مشروعات شواطئ وكمباوندات وأماكن ترفيهية، بعدها مباشرة إعلانات تستحثك للتبرع من أجل جمع ثلاثة آلاف من أجل توصيلة ماسورة ماء لأسرة فقيرة في مجاهل البلاد المصرية.