بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
أرقام لا يمكن تكرارها.. عن عمر لم يتجاوز الـ 58 عاما كتب (أبو السعود الأبيارى) قرابة الـ 500 فيلم، وهو ما يمثل تقريبا 15% من مجموع أفلام السينما المصرية كاملة.
كما تعدى عدد الأغانى التي كتبها الثلاثمائة أغنية، وللمسرح كتب مايزيد عن الـ 150 مسرحية، منها 62 مسرحية كتبها لفرقة إسماعيل ياسين التي شاركه فيها والفنان محمود المليجي.
وبمناسبة فرقة إسماعيل ياسين فقد تم مسح 61 مسرحية من الـ 62 عدا مسرحية واحدة فقط تم الإبقاء على فصلين منها فقط هى كل ما تبقى من هذه الثروة وهى مسرحية (كل الرجالة كده).
ومن بين هذه المسرحيات مسرحية (عمتى فتافيت السكر)، المأخوذة عن فيلم (سكر هانم)، والذى كتبه (أبو السعود الأبيارى) لبطله المفضل وصديقه المقرب إسماعيل ياسين.
غير أن الخلافات التي دبت بين البطل ومخرج العمل السيد بدير قد أطاح به خارجا، ورغم استبعاده فقد رشح إسماعيل لـ (أبو السعود الإبيارى) بديلا عنه، وهو الفنان عبد المنعم إبراهيم لأداء الدور.
ولم يتخلى إسماعيل عن الشخصية حتى واتته الفرصة لتقديمها على المسرح وقام بدور العمة (فتافيت السكر) لتنجح المسرحية بأشد مما نجح الفيلم لولا ضياعها من أرشيف التليفزيون و حرمان الجمهور من ساعات متواصلة من الكوميديا الرائعة.
بالإضافة الى مسرحية (منافق للإيجار) والتي كتب فيها (أبو السعود الإبياري) لإسماعيل ياسين منولوج:
(أعيش منافق، أموت منافق، وأقضي عمري بذمه كاوتش، ومهما قالوا الخلق هوافق، نضافة الذمة ما نفعتش)
هذا الثروة الفنية التي تم إهدارها من أرشيف التليفزيون لم تظهر إلى الآن أى تحقيقات عن الجانى، وهل كان الإهدار متعمدا لينال عقابا، أم غير متعمد لينال جزاءه؟
وهى دعوة للبدء في تجميع شتات ما تبقى منها ليقدم كل من لديه نسخة من أى من هذه المسرحيات فرصة جديدة لإعادة الحق الى المشاهد العربي.
(أبو السعود الإبياري).. ماكينة إبداعية
و(أبو السعود الإبياري) ماكينة بشرية للإنتاج الإبداعي متعددة الخطوط، خط الأفلام: حيث تستغرق كتابة الفيلم لديه حدود الشهرين على الأكثر، خط المسرحيات، الاسكتشات، المونولوجات، وحتى المقالات الصحفية بمجلة الكواكب وغيرها.
يستمد (أبو السعود الإبياري) كامل طاقته من الروح الشعبية، و من أنفاس الشيشة التي لا تفارقه ساعات الكتابة في بيته أو على المقهى.
بالإضافة إلى انغماسه الكامل في الحارة الشعبية واختلاطه بكافة الطوائف الاجتماعية بمختلف أطيافها الثقافية والفولكولورية.
طوال الوقت و(أبو السعود الإبياري) يشرع رادار الابداع ليدور حول رأسه 360 درجة باحثا في الفضاء وفي الشوارع والمقاهى والبيوت عن كلمة أو موقف ليسحبه إلى بوتقته الخاصة ويخرجها سبيكة فنية ذهبية لامعة.
يحكى المخرج حسن الإمام: (كان ذلك عام 1945 عندما كنت جالسا مع (أبو السعود الإبياري) على المقهى ليسارع الجرسون باستدعائه الى تليفون هام يطلبه..
بعد دقائق عاد سارحا تضرب ملامحه الحيرة يخبرنى بأن (عبد الوهاب) يطالبه على وجه السرعة بتأليف أغنية لفيلمه الجديد (الحب الأول) لتغنيها البطلة (رجاء عبده).
وبينما هو يكركر بالشيشة سارحا إذا بالبوسطجى ينادى على أحد رواد المقهى (بوسطة)، لينتفض أحد الجلوس فيمد له (البوسطجى) يده بالجواب في عصبيه مرددا: (خد يا سيدى.. كل يوم بوسطة.. بوسطة).
يلتفت (أبو السعود الإبياري) متأملا البوسطجى ويعود بوجهه في سرعة متناولا علبة سجائر يكتب في سرعة على ظهرها ليقرأ لى ماكتب:
(البوسطجيه اشتكوا، من كتر مراسيلى،
وعيونى لما بكوا، دابت مناديلي،
من كتر شوقى إليكم أفتح فناجيلى،
روح يا قمر والنبى ع الحلو مسى لى).
(أبو السعود الإبيارى) وباب الشعرية
ولد (أبو السعود الإبيارى) عام 1910 بحى باب الشعرية بالقاهرة، وهو أحد أقدم وأعرق أحياء القاهرة، و هو نفس الحى الذى ولد به وتربى الموسيقار محمد عبد الوهاب.
وقد تشبعت روح (أبو السعود الإبياري) بشعبية الحى وحاراته وبيوته، ليجمع ثروته من مفردات اللغة الحية، والعادات المتأصلة، ومحاسن الأخلاق في حراسة الدين والصالة.
إلى جانب مساوئ الأخلاق التي يفرضها الفقر والجهل، وقد فاض (أبو السعود الإبياري) بكل ذلك في حيوية الحوار و مفردات أغانيه و اسكتشاته.
في طفولته المبكرة كتب زجلا لمجلة الأولاد، وحينما نشرته المجلة طار بها فرحا إلى أبيه الذى اعتراه الغضب لينهال بخيرزانة على جسد ابنه صارخا: ( أتاريك خايب في العلام، عوز تشتغل زجال؟، و الله عاااال).
ليستمر الأب في الضرب إلى أن يغشى على ابنه وعليه ، على أثر هذه العلقة الساخنة يكتم الابن رغبته في الكتابة، ليظل البركان بداخله فائرا تحت السطح ينتظر لحظة انفجاره ليملأ بحممه الفضاء ويسيل على جانبيه شلالات من مصهور الذهب.
في السينما كان أول فيلم يشاهده هو أحد أفلام شارلى شابلن، وكانت ضحكات الجمهور البسيط وتجاوبه مع عصا (شابلن) و حركاته البندولية باعثا لحركة البركان المختبئ، وحينما شاهد فيلما دراميا بعد ذلك أدرك أن الفكاهة هى طريقه.
نجح (أبو السعود الإبياري) في شهادة الكفاءة وأثناء إجازته السنويه انتقلت إلى جوارهم في السكن عائلة إيطالية يعمل الأب بها رئيسا للأوركسترا في فرقة نجيب الريحانى..
فيدعو الأسرة للحضور إلى المسرح فتعتذر وللحرج تنيب عنها ابنها (أبو السعود). باجتياز (أبو السعود الإبياري) باب المسرح ذو الفضاء الواسع والمقاعد المتراصة و خشبة الأحداث..
تلتم على جوانبها الستائر الحمراء بالغة الضخامة التي انفرج عنها نجيب الريحانى يؤدى دور (كشكش بك)، فتنفجر الصالة بالضحكات ويضمخ الهواء بالسعادة ليلج (أبو السعود الإبياري) عالمه المفتقد، ويعاود البركان الارتجاف بشدة تحت السطح.. متجهزا للحظة الفارقة.
التحق (أبو السعود الإبياري) بفرقة (بديعة مصابنى)، وكان لبديعة كازينو هو الأشهر على مستوى القطر المصرى، وقد جاءت (بديعة) من الشام راقصة وممثلة قدمت عديدا من الاسكتشات الخفيفة التي اجتذبت جمهورا..
لتقيم على أثرها هذا الكازينو بميدان الأوبرا، فتضم إليه كوكبة من الموهوبين واحدا تلو الآخر من أمثال (بشارة واكيم، محمد فوزي، سامية جمال، فريد الأطرش، إسماعيل ياسين، تحية كاريوكا، زينات صدقي، حورية محمد، محمد الكحلاوي، محمد عبد المطلب).
أول مونولوج لـ (أبو السعود الإبياري)
ليكتسب الكازينو شهرة هائلة حتى كان أول رواده هو الملك فاروق، وكانت بديعة تدير الكازينو بمساعدة ابن اخيها (أنطوان)، الذى غدر بها فيما بعد وتزوج من احدى صغار راقصاتها ليفتتحا سويا كازينو منافس لكازينو بديعة، وليسحب (أنطوان) النجوم منها واحدا اثر الآخر.
كان أول مونولوج يكتبه (أبو السعود الإبياري) لفرقة بديعة مصابنى هو مونولوج (بريه من الستات) للمنولوجست الأشهر في هذا الوقت (سيد سليمان).
و(سيد سليمان) لمن لم يعرفه إسمه سيعرفه شكلا بمجرد تذكر أدواره كأشهر خادم نوبى في الأفلام العربية والمسرحيات.
فنتذكر دوره الشهير (عم آدم) في مسرحية (إلا خمسة) لمارى منيب وهي تردد سؤالها الخالد: (انتى جايه تشتغلى ايه؟).
وبالمناسبة فسيد سليمان ينحدر من أسرة ثرية نوبية، تلقى تعليمه الأولى بمدارس الفرير، لكن خسارة والده المحامى لكل أمواله في التجارة اضطرت سيد لترك المدرسة والنزوح مع أسرته إلى القاهرة للبحث عن عمل.
فينضم هناك إلى فرقة نجيب الريحانى كمنولوجست ومنها لفرقة بديعة مصابني، والمونولوج هو حديث الممثل مع نفسه سواء في إطار درامى أو فكاهى.
في كازينو بديعة استمر (أبو السعود الإبياري) يكتب اسكتشات ومونولوجات حتى اقترح (الإبيارى) على بديعة عام 1933 أن يقدم مسرحية من فصل واحد بعنوان (أوعى تتكلم).
ورغم عدم اقتناعها في البداية إلا أن تفاعل الجمهور غير المتوقع مع المسرحية جعلها تطالبه بتقديم مسرحية في (البروجرام الأسبوعى) للكازينو.
لينطلق (أبو السعود الإبياري) في كتابة 4 مسرحيات كل شهر، ولتكون هذه البداية الحقيقة لرحلة فصولها تتوالى قادمة.