بقلم الدكتور: كمال زغلول
من خلال تلك المأساة، تكونت لدى المصري القديم خيالات وتصورات أدت إلى ظهور عروض مسرحية، منها الدراما المنفية – أو تمثيلية بدء الخليقة، (ويمكن تلخيص محتويات هذه المسرحية بأنها محاولة لتفسير أصل الأشياء، ويدخل في ذلك نظام العالم الخلقي وكذلك تدل على أن أصلها يرجع إلى (بتاح) إله (منف)، أما كل العوامل التي ساعدت على خلق العالم أو المخلوقات التي كان لها نصيب في ذلك فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر (لبتاح) إله (منف) المحلي المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات والذي يعتبر إله كل الحرف.
ومن الملاحظ أن الدراما المنفية أول الأعمال التاريخية التي تمثل موضوع الخلق، داخل عرض مسرحي، فهذا لم نجده في علم الآثار لأي دولة في العالم حتى الآن، وهذا يلقي الضوء على طبيعة العروض المقدسة في مصر، فقد لخصت أحداث خلق العالم في شكل أدبي تمثيلي يؤدي أداءً حياً داخل معابدها، ثم استعرضت ما حدث بين أوزوريس وست على حكم مصر، وهنا يظهر شكل الصراع بينهما من خلال النص، وهذا الشكل الأدبي احتوى على أولى أشكال الصراع من خلال تضمنه قصة أوزوريس وأخيه ست على حكم مصر، وكفاح إيزيس مع ابنها حورس في استرداد الملك من المغتصب ست، وذلك بعد موت زوجها، ومن قصة أوزوريس وست التي تعرضها الدراما المنفية، نجد أول شكل للمأساة في التاريخ، وهي مأساة قتل الأخ لأخيه، والاستيلاء على حكم مصر، وهذه الدراما المنفية توضح لنا الفكر التمثيلي المصري وقد ظهر في صورة نص وأداء تمثيلي.
الشكل الأدبي في الدراما المنفية
صوَّر المصري القديم أولى الأشكال الأدبية التمثيلية في الدراما المنفية، من خلال حبكة درامية استعرض فيها فكرة الخلق الإلهية، ومن ضمن أحداثها خلق أوزوريس، وتعليمه للمصري القديم الكثير من الحرف والصناعات وعلوم الفلك والزراعة، ثم ينتقل بنا إلى صراع خفي في داخل نفس أخيه ست يصور الحقد والغيره من أخيه فيخطط لقتله وينجح، إلا أنه تأتي انفراجة خيالية تصور عودة أوزوريس للحياة عن طريق زوجته إيزيس، وتحمل منه بحورس، إلا أن التعقيد يستمر عقب المحاولة الثانية لقتل أوزوريس، وتعيده زوجته إلى الحياة مرة أخرى، إلا أنه يختفي ويصبح هو المسئول عن محاسبة الموتي، إلا أن الصراع يتصاعد في معركة حامية الوطيس بين الابن وعمه ست حتى يستطيع حورس استرداد عرش أبيه ويحكم مصر.
الصراع داخل الحبكة في الدراما المنفية
ونلاحظ أن الصراع يدور حول ملك مصر، ويظهر أول أشكال الصراع من خلال تلك الحبكة في الدراما المنفية والتي تتمثل في وجود قوى خيِّرة وأخرى شريرة، يتصارعان مع بعضهما البعض، وتلك القوى متمثلة في أوزوريس وست، واستمرار هذا الصراع بعد موت أوزوريس، بين ست وحورس، إلى أن انتصر حورس في النهاية.
وبنيت الحبكة في هذا النص متضمنة عنصري المكان والزمان اللذان تدوران فيهما الأحداث داخل الدراما المنفية، والتي تصور مجموعة من الأزمات التي تتعرض لها الشخصية المأساوية أوزوريس، من خلال مجموعة من الأحداث مكونة التأزم من خلال تصاعدها، فموت أوزوريس قد أزم الأحداث إلا أن الانفراجة تأتي من إيزيس بإعادته للحياة، ثم يتبع ذلك تأزماً بعد موته ثانية، ولكن الانفراجة تأتي من خلال الحمل وميلاد حورس وانتقامه من ست.
إقرأ أيضا : كمال زغلول يكتب: أوزوريس في مسرح مصر القديمة (2)
وإذا كانت الشخصية المسرحية مكونة، من أبعاد ثلاثة (مادية – اجتماعية – نفسية)، فإن المصري القديم نجح في نسج شخصياته عبر الدراما المنفية وفق الأبعاد الثلاثة المميزة لشخصيات مسرحيته، فعلى سبيل المثال نلاحظ البعد الاجتماعي، لشخصيات المسرحية فهم ملوك حكموا مصر ودار بينهم صراع على هذا الحكم، وبالنسبة للبعد المادي تظهر الشخصيات بأبعادها المادية، وهذا ما نراه في حورس المقاتل، ويأتي البعد النفسي لنرى النفس البشرية لكل شخصية تعبر عما بداخلها، إذ يمثل ست الشخصية الحاقدة الجاهلة، والتي تقوده نفسه إلى قتل أخيه، ويمثل أوزوريس النفس الخيرة ذات الأفعال المفيدة لمجتمعه، وتقديم العلم لهم، كما تمثل إيزيس بنفسيتها صورة للأمومة التي تحفظ المجتمع بتضحياتها الكبيرة من أجل ميلاد حورس لكي يحكم مصر كما حكمها أبوه من قبل، وهذا ما نراه من خلال تركيب الشخصية داخل النص.
الحوار في الدراما المنفية
حوار تلك المسرحية لم يكن شعرياً بل كان نثرياً، وهو أحد اشكال الأدب النثري المسرحي التمثيلي، وهذا ما نلاحظه من خلال محاورة بين (جب) و (حور) و(ست) عن تقسيم البلد المناظر من 10 إلى 12
(جب) يخاطب (ست):
اذهب إلى المكان الذي ولدت فيه ست الوجه القبلي
(جب) يخاطب (حور):
اذهب إلى المكان الذي أُغرِق فيه والدك حور الوجه البحري.
(جب) يخاطب (حور) و(ست):
لقد فصلتكما الوجه (البحري والقبلي).
الأداء التمثيلي في الدراما المنفية
يشير هيرودوت إلى رؤية هذا النوع من التمثيل عبر الدراما المنفية، داخل المعابد المصرية في شكل عرض تمثيلي والتي تصور اّلام أوزوريس، ويقول: (ويوجد أيضا بسايس في حرم معبد (أثينا) قبر من لا يحل لي ذكر اسمه في هذا الشأن. والقبر موجود وراء الهيكل ويمتد محاذيا لكل جدار المعبد، وفي حرم المعبد تقوم أيضا مسلتان عظيمتان من الحجر توجد بجوارهما مزخرفة ومزينة بحافة من الحجر متقنة الصنع على شكل دائري وحجمها – فيما بدا لي – كحجم بحيرة (ديلوس) التي تدعي بالبحيرة المستديرة، وفي هذه البحيرة تقدم الاستعراضات ليلا والتي تمثل مصيره المحزن ويسميها المصريون (أسرار).
وهذه إشارة إلى وجود جمهور يشاهد عرضا تمثيليا في الدراما المنفية، والمنظر المسرحي الذي تدور فيه الأحداث هو بحيرة، وهى جزء من الأسطورة المعروفة عن أوزوريس، إذ أن ست ألقاه في النيل، وعثرت عليه إيزيس.
الإخراج المسرحي في الدراما المنفية
وقد وجدت بعض الإرشادات المسرحية التي توضح كيفية إخراج تلك المسرحيات، وقد ورد ذلك في (بردية برلين – رقم 1425) تختار امرأتين ممشوقتي القد، وتجلسان على الأرض قدام البوابة الأولى للقاعة الواسعة، ويُكتَب على منكب إحداهما إيزيس: وعلى منكب الأخرى نيفتيس، ويوضع في اليد اليمنى لكلتيهما إبريق من القشاني قد مُلِئَ بالماء، كما يوضع في اليد اليسرى لكلتيهما (أرغفة) خبز منف.
أما عن (بردية المتحف البريطاني – رقم 10188) تختار فتاتين طاهرتي الجسد قد حف شعر جسميهما وزين رأسيهما بشعر مستعار (باروكة) وتمسك كلتاهما بدف في يديهما وقد كتب اسماهما على منكبيهما – كما ذكر آنفاً -، الأولى (إيزيس) والثانية (نيفتيس)، وتغنيان مقطوعة هذه الكراسة في حضرة الإله.
كما أن اللغة الحوارية في النص دليل على وجود أكثر من ممثل، داخل العرض المسرحي في الدراما المنفية، يمثلون الشخصيات التي يحتويها النص، بل وهناك إرشادات إخراجية توضح، كيفية إخراج العرض أمام النظارة ولم تخرج هذه المسرحيات المقدسة من الطقوس التي كانت تقام لأوزوريس بل هى مسرحيات وضعت لتمثيل حياة أبطال مصريين، رُفِعوا إلى مصاف الآلهة، وقد تعرفنا على هؤلاء الأبطال من خلال المعتقد المصري وتجسيده في صورة فنية .
المكان المسرحي في الدراما المنفية
وإذا كانت هذه العروض قدمت في المعابد المصرية، ولم تقدم في مكان خاص معد لذلك فهذا يعود لطبيعتها الدينية، إذ توصل المصري القديم إلى شيء هام وهو طبيعة المكان الذي تقدم فيه المسرحية إذ أن للمكان تأثير أعمق على المتلقي المُشاهِد للعرض المسرحي في الدراما المنفية، إذا اتفق مع مكان العرض، وهذا ما يشير إليه هلتون حول العروض الكنسية (فإذا كان العرض المقدم في الكنيسة متفقا في موضوعه ومتسقا في أسلوبه مع نظام العقائد الذي يكرسه المكان ازدادت قوة تأثير العرض)، كما حدث حين قدمت مسرحية ت.س إليوت (جريمة في كاتدرائية كانتربري)، لقد كتب إليوت المسرحية خصيصا لتقدم في هذه الكاتدرائية وأقام العمل كله على أساس الموقع الكنسي كمكان للعرض، ولذا من الصعب علينا تصورها وهي تُقَدَّم خارج الكنيسة.