بقلم: د. مدحت الكاشف*
دائما تقفز إلى أذهاننا قضية تعلم الإبداع خاصة في الفنون!، هل هو ضرورة، أم أنه غير ذي أهمية طالما الفنان موهوبا ومبدعا في فنه؟!، وإذا كانت الإجابة هذه أو تلك فما جدوى تدريس الإبداع أصلا؟!، وماهي إمكانية ممارسة الإبداع بجميع أشكاله دون الانخراط في الأكاديميات والمدارس المختصة بتعليم الإبداع وفنونه؟
إقرأ أيضا : حسين نوح يكتب: الإبداع في (تحت الوصاية)
هناك من يزعمون بأن التاريخ منذ بدء الخليقة قد عرف مبدعين كثيرين ، أبدعوا في فنونهم دون أن يتعلموا الإبداع على أيدي معلمين سابقين لهم، وقبل انتشار المدارس والأكاديميات في العالم، متناسين أن حركة تطور المجتمع وما يتفتق عنها من تراث إبداعي هو بمثابة المدرسة التي يسير على نهجها المبدعون، وتثقل وتصقل مواهبهم على اختلافها بشكل غير مباشر يتأصل ويترسخ فيهم ربما دون وعي منهم، أما بالنسبة لهؤلاء العباقرة الذين ظهروا وأبدعوا في عصورهم ولم يكن التعلم حليفهم في ممارسة فنهم فحسب، ولكن ربما ثمة مناخ أو مناسبة حفزتهم على ممارسة الإبداع بشكل استثنائي متفرد بين أقرانهم من البشر
قيس بن الملوح والإبداع
فعلى سبيل المثال (قيس بن الملوح) الشاعر الجاهلي تعلم قرض الشعر ربما من طبيعة البيد والصحراء التي عاش فيها وساهمت في تكوينه كشاعر، ويستبعد أن يكون قد تعلمه على أيدي (جن وادي عبقر) حسبما تشير ترجمة سيرته الذاتية، وحتى لو صدقت تلك الخرافة، فإنها تؤكد أنه تعلمه الإبداع أيضا، ولا تنفي عنه التعلم، إلا أن موهبته كانت هى الفيصل، هى الوعاء الذي استقبل المحفزات الخارجية وجعلت منه شاعرا مبدعا سيظل يذكره التاريخ وسط فطاحل الشعراء عبر العصور!، وعليه يمكن التسليم بأن خواطر الشاعر الفرنسي الرومانسي (لامارتين) هى المحفز لتأملاته الشعرية!
إقرأ أيضا : سفينة (نوح) الإبداعية تنتشلنا من طوفان الفن المبتذل !
ولكن ما هى محفزات تلك الخواطر؟!، أليست تجليات العصر الذي عاش فيه في نهاية القرن الثامن عشر والتي تعتبر بمثابة المدرسة التي نهل منها كل صنوف الإبداع ساهمت في تكوينه كشاعر مبدع وسياسي مرموق في عصره!، والفيلسوف الفرنسي (ديكارت) صاحب مقولة قامت عليها فلسفته وهي [أنا أفكر].. قد ابتدعها وفق رؤية شاهدها في منامه!، وليس من مدرسة ألهمته علومها بها، وهو ما ينطبق على (أرشميدس) الذي اكتشف قانون الطفو، و(إسحاق نيوتن) الذي اكتشف الجاذبية الأرضية من تفاحة شاهدها لحظة سقوطها على الأرض ليأخذ قصب السبق كأول واحد يفسر هذه الظاهرة التي مرت على ملايين من قبله مرورا غير ملفت!
ممارسة الإبداع والتجربة
نعم هؤلاء مبدعون، ولم يتعلموا نتاجهم في إبداعهم من أحد ول في مدرسة، ولكنهم استثناء لا يقاس عليه، فالعباقرة استثناء لا يمكن تعميمه، فهي قدرات اختص بها الله سبحانه وتعالي البعض دون البعض الآخر، ومع ذلك فهم أبناء شرعيون وامتداد لمناخ وتراث إبداعي كان بمثابة المدرسة غير المباشرة التي نهلوا منها، سواء بوعي أو بغير وعي، ويظل المجادلون يرددون كيف تعلم المبدعون الأوائل؟!، مستنكرين ضرورة تعلم المبدع لكي ينهض بفنه إلى مراتب أعلى وأفضل مما هي عليه، فممارسة الإبداع تتطلب دوما وضع الفنان في محك التجربة باستمرار ليكتشف بنفسه، ما هو أبعد من الدرس أو النظرية التي تلقاها في مدرسة أو أكاديمية، مما يؤكد بأي حال من الأحوال أن هناك ضرورة لتعليم المبدع، لا ليكون مبدعا فحسب، فهو مبدع بفضل موهبته واستعداده وقابليته، بل من أجل تسليحه بترسانة من العلوم والنظريات التي تساعد في إنماء تفكيره الإبداعي الكامن وتفجره ليخرج على هيئة إبداع!
إقرأ أيضا : الذكاء الاصطناعي .. خطر داهم يزحف نحو الفنون الإبداعية!
فالعلم إذن هو وسيلة المبدع ليمارس فنه وفق تنسيق علمي وعملي يحفزه على الإبداع، مع التأكيد بالطبع على أنه ليس كل من يتعلم الفن والإبداع يصير مبدعا بفضل ما تعلمه، بل لابد وأن يكون التعلم مقرونا بالقابلية للتعلم، والقابلية للتعلم منطلقة من موهبة كامنة في داخل المبدع، وبالرغم أنها قضية لازالت رهن السجالات والنقاشات المحمومة بين المبدعين وأنفسهم من جانب وبينهم وبين متلقيهم من جانب آخر، وعليه أؤكد من جانبي أن الدراسة الإبداعية ليست دراسة لتحصيل علوم ثابتة، بل هي نوع من خلق مناخ للمبدع كي يشتبك مع مجتمعه، ومع واقعه، ومع أدواته التي يعبر بها وفق معطيات تنهض على العلم وليست قائمة على الإبداع العشوائي… تحت دعوى الموهبة!
*عميد المعهد العالي للفنون المسرحية