بقلم الإعلامي : أسامة كامل
كنا قد توقفنا في الحلقة السابقة عند موقف تراجيدي يحمل قدرا من الرومانسية في (قصة في ورقة)، عندما فتحت ثغرها المنير والشال الحرير وثوبها المجسم على جسدها الوردي ودخلت وهى تطيل النظر إلى محمد حافظ الذي نسي الدنيا والناس وسرح بعيدا، وبعد برهة خرج الحاج زاهر أيوه يا سي محمد اتفضل!.. حاضر يا حاج وصحب معه أحد صبيانه حاملا الفخدة وصعد إلى الدور الأول حيث استقبلته (هنية) التي تعمل في الدار منذ سنوات طويلة بالترحاب والكلمات الطيبة والسؤال عن الحاجة (أم حافظ) الطيبة الكريمة، فغمزها في يديها حتة بعشرة قروش حتى تزيد الثناء وأجلسته في حجرة المسافرين واستلمت الفخدة من يد الصبي الذي رحل سريعا، وحل الحاج زاهر مرحبا بالضيف الكريم: والله ماكان له لزوم التكليف ده يا سي محمد هو احنا غرب.. ده احنا أهل: القهوة يا نبوية، وهل الفجر بعد الهجر في لونه الوردي بيهفهف!
إقرأ أيضا : أسامة كامل يكتب : قصة في ورقة .. نبوية ومحمد حافظ!
وقام محمد حافظ من مكانه و استلم الصينية من يديها الصغيرة حتي لامس أصابعها وهى تضع ابتسامة عريضة: ازيك يا ست نبوية، أهلا يا سي محمد وجلس الرجل وخرجت (نبوية) في خطوات مرتبكة والتفافة بسيطة وكأن عيونها تشع ضوءا يملأ الدنيا كلها، والحاج زاهر غائب ويتحدث متواصلا غير عابئ ولا مهتم بما حدث هنا، إنها قصة حب تشع على البلد وعلى بيتك وعلي بنتك (نبوية)، يارجل مبروك ما جالك يا سي محمد حافظ، عندك 3 عربات وأربع خيول وبنيت بيت جار الرياح القديم، وكويس انك تشغل اخواتك معك، وكأن الحاج زاهر جمع المعلومات كاملة، ورد محمد حافظ: الحمدلله ببركة دعوات الوالدين والناس الطيبين زيك يا حاج، انت كنت عايز حاجة يا سي محمد؟، سلامتك ياحاج شرفت وأنست يا ابني ونشوفك تاني.
محمد حافظ حزين!
وقام محمد حافظ بطيئًا متململا لا يكاد يشعر بساقيه والتفت إلى (نبوية) وهى تنظر إليه بعتب أو غضب أو سؤال؟، وهو صامت يلم في البالطو ويبلع ريقه بصعوبة واختفي الدم في وجهه، وبعض عدة أيام حل على البلد (الأستاذ السعداوي) الذي غادر البلد منذ فترة إلى الكويت ليدرس هناك سنوات ليست قليلة ومعه أمه وأخواته ويركب سيارة داتسون ياباني حديثة، والأولاد يجرون خلفه وكأنهم يرون أعجوبة، ولم يكن (السعداوي) تزوج بعد، وبعد عدة أيام ظل (السعداوي) يذهب إلى الحاج زاهر محملا بهدايا وشوكلاتة غريبة الشكل والطعم وعلب أناناس، ويظل بالساعات واختفت (نبوية) ولم تعد تظهر إلا نادرا ومحمد حافظ في غيبوبة وحزن شديد وأوهام ثقيلة ولا يترك الشيشة من فمه.
وتمضي الأيام ولم يعد محمد حافظ يهتم بالعربات ولا الخيل التي هزلت وضعفت وربما شعرت بالحزن من أجل صديقها الذي حلم أحلام وأوهام وتخيل أن كل شيءٍ راح وانقضى، و(نبوية) تنظر إليه غاضبة مستاءة ولا تعرف سببا لما حدث للرجل الذي كان وأصبح في خبر كان، وفي أحد الأيام طل الحاج زاهر بعد المغرب ونده على محمد حافظ تعالي يا سي محمد عايزك ضروري، وسحب حافظ قدميه ثقيلتان تجره بأعجوبة وصعد وفتحت له (هنية) الباب ومدت يديها تسلم عليه لكنه نطرها بخفة وسرعة ولا اهتمام، وضاع محمد حافظ وهو يتوقع السيناريو القادم والحاج زاهر يحكي له أن (سعداوي) سوف يطلب يد (نبوية) رغم فارق العمر بينهما وهو حائر لايعرف ماذا يفعل.
وجلست (نبوية) أمام محمد حافظ وهو يسرح بعينيه بعيدا، هذه قطعة من قلبي سوف تتمزق اليوم، إن روحي سوف تشيع ولن أكون أبدا الرجل الذي كنته قبل ذلك، وتتحدث (نبوية): مالك فيه ايه كذا يوم عايزه أشوفك.. أكلمك.. أبعت لك جواب، وحتى لما نزلت سوق الأحد ربما أراك لم تكن هناك، وقدمت (هنية) بالقهوة وهى ترحب به وتسايره على أمل الحتة بعشرة قروش، وهو صامت غائب يتوقع خنجرا في صدره، لحظات ثقيلة وحر شديد يحوط بغرفة المسافرين، والقهوة بلا طعم ولا رائحة، والحاج زاهر لايأتي والقدر أيسر عليه من الطعنات والأخبار السوداء ربما أسوأ من أنباء الحرب الكئيبة في الجبهة، وأنباء عن هزيمة منكرة وشهداء بالآلاف، وأخوه غائب لم يأتي بعد ولكنه أرسل إليهم خطاب موخرا يطمنهم عليه.
محمد حافظ يفوز بنبوية
لقد ظلت أماكن عديدة في مصر لا تعرف أخبار المعركة في سيناء ورجال الاتحاد الاشتراكي يشيعون بين الناس: أن مصر هى التي انتصرت ولا تصدقوا الإشاعات.. صدقوا الرئيس عبد الناصر فقط!، والناس لا تخرج ولا تسافر ولا تعمل ولا تزرع، والحزن يسود البلد، حتى العمدة مريض جدا وابنه (عيد) يعد نفسه للعمودية!، وفضايح في الوحدة الصحية بين أحد الأطباء وممرضة، وبنك التسليف الزراعي فيه اختلاسات.
المدير انتهز فرصة الحرب وخد خمسين ألف جنيه وهرب ومحدش عارف مكانه و(عائلة الحسيني) انتهزت فرصة الحرب وبنيت بيت علي الطريق الزراعي، ولا حد عملهم حاجة.. يا دي المصايب اللي نازلة على دماغك يا محمد حافظ حتى البنت اللي حلمت بيها واتمنيتها تضيع من بين يديك، أنا هاسيب البلد وأروح اشتغل في إسكندرية!، هو ده الحل واسيب العربيات لاخواتي علشان غلابة ومالهمش حد غيري، وعلشان خاطر أمي العيانة!، وهو فاقد الوعي تقريبا دخل عليه الحاج زاهر مكروشا كئيبا مطئطئ الرأس يحمل هموم العمر كله: ازيك يا محمد يا ابني وأخبارك ايه؟، سيبونا لوحدنا شوية يا ولاد وهاتوا شاي فيه سكر: أنا معنديش غير (نبوية) يا محمد والدكاترة قالوا لي اني عندي شوية تعب في القلب ولابد آخد بالي من نفسي علشان اللي فاضل مش كتير.
محمد حافظ: متقالش كده يا حاج انت كويس خليني أخلص الكلمتين يا حافظ و(الأستاذ سعداوي) جاي من الكويت وعايز ياخد الفدان اللي بجوار الترعة علشان يبنيه ويتجوز فيه واحدة من مصر لابسة كده لافرنجة وعاملها شعرها وكلام بتاع البندر، عندئذ أطرق محمد حافظ برأسه قائلا: يعني دي مش اخته؟، لا يا ابني دي خطيبته، وشهق محمد حافظ وتنفس طويلا وعادت إليه روحه وابتسم ابتسامة أشبه بالضحك، وعلشان كده أنا عايز أطمن على (نبوية) قبل ما أموت ومش هالاقي حد أحسن منك يخلي باله منها ويحميها ويعززها.
ووقف محمد حافظ وهبط على يد الحاج زاهر وهو يبكي بدموع حارة ويقبل رأسه ويديه، وينده زاهر: يا نبوية تعالي وفي خلفها هنية، وقال لها محمد حافظ طلب ايديك وأنا وافقت وبكت بحرقة وهى تنظر نظرات حب وعتاب وملام لمحمد حافظ الذي لم يصدق نفسه، وأمسك يديها يقبلها ويضع قبلة علي رأسها، وهنية ترقع الزغاريط، وظهر محمد حافظ ونبوية يمسك يديها والناس تهلهل وتبارك، وحافظ يطلب من أخواته عجلين لباني لأهل البلد وكتب الكتاب يوم الخميس والفرح بعد شهر.