بقلم : محمد حبوشة
لاشك أن هذا المخرج السينمائي المبدع داوود عبد السيد، يشكل ظاهرة فريدة تخرج عن جميع المعايير النقدية والتقويمية المتعارف عليها سواء في السينما، لقد خلق لوحده اتجاها سينمائيا مستقلا ظل يمارسه ويطوره حتى آخر يوم في حياته الإبداعية والشخصية عرف بـ (التيار الشعري للسينما الذاتية)، وهو تيار له جوانبه ومعاييره الشكلية والمضمونية والجمالية، يتناول المواضيع المصرية التي تهم الإنسان أينما كان ومهما كان عرقه وأصله ودينه وثقافته، ولقد بلغ عبد السيد مكانة لا تضاهي في داخل بلده مصر وخارجها وتمتع باحترام وتقدير كبيرين، وذلك على الرغم من أنه لم تتوفر له نفس الإمكانات التي توفرت لأي سينمائي غيره من جيله.
لكن ما الذي يثيرنا أو يقلقنا أو يستهوينا ويهمنا في سينما داوود عبد السيد، هل هو استمرار المؤلف – الفنان، الاستثنائي في طريقه السينمائي الفريد والمتميز؟، هل هو ذلك الإصرار الواثق على تأكيد ظاهرة (تاركوفسكي) وابتكاره لتيار السينما الذاتية – الشاعري التي عرفت بمفرداتها التعبيرية الخاصة على صعيدي الشكل والمضمون؟، أم هو الاستمرار في إيصال رسالته السامية إلى الإنسانية كلها وبحثه الدائم عن الجوانب الروحية والجوانب الخفية والمجهولة لعالم يفزره الشر، وتسيطر عليه المادة ويسير من سييء إلى أسوأ، ليصل بالبشرية إلى حافة الكارثة والخواء، ومواجهته بلا كلل ولا تعب لعالم غارق في القيم المادية والمنفعية البحتة والمجبول بالأنانية الفردية؟
أسلوب داوود عبد السيد
هل هو أسلوبه الذي يستحيل تقليده حتى بوجود التنويعات الظاهرية في مضامين أفلامه؟، هل هو استبدال اللقطات الكبيرة والمقربة التي طبعت مرحلته الابداعية الأولى من حياته السينمائية ووسمت بها أفلامه المصرية والتي أتحفنا فيها بروائع سينمائية بالغة الواقعية تشهد على براعته خلف الكاميرا وميله إلى استخدام أكبر عدد من اللقطات العامة والبعيدة جدا؟
قد يكون كل ذلك مجتمعا، وشيء آخر نحسه ولا نعرفه أو لا نستطيع صياغته أو التعبير عنه ماديا، شيء ما تتسم به جميع أفلام وسينما داوود عبد السيد الشخصية يمكننا أن نسميه بـ (نفس تاركوفسكي)، فلقطاته طويلة زمنيا، خصوصا إذا كانت مأخوذة من زوايا غريبة وشاذة، أو تكون بعيدة وعامة لتتيح للمتفرج الوقت الكافي للتمعن في محتوياته وجمال تكويناتها، تبدأ لقطاته عادة ساكنة ثم تتخللها حركات ترافلنج (ميكانيكي أو بصري، أو الاثنان معا وبتزامن خلاق)، جانبية أو أفقية أو عميقة (انقضاضية أو ارتدادية) كاللقطة التي ختمت فيلم (أرض الخوف)، حيث تابعت الكاميرا بإصرار ودقة شديدتين (يحيى المنقباوي) في قمة لحظاته النفسية المتوترة إبان توغله في عالم المتاهة والجنون، وهنا نتساءل في دهشة: هل يمثل ذلك وسيلة للتعبير عن حالة البحث الدائم عن الحقيقة المطلقة المختفية في أعماق الكائن البشري وعندها لا يكون للسينما دور سوى الكشف عن العالمين (الخارجي والداخلي) للإنسان وهو في حالة عري تام، حيث يتكفل الفنان بمهمة التعرية لهذا الكيان بأكمله قبل أن ينظر إليه باعتباره واقعا مباشرا لا سبيل لسبر أغواره، حيث تحل عين السينمائي – الرجل محل نظرة إنسان الحياة اليومية؟
عبقرية داوود عبد السيد
تتجسد عبقرية داوود عبد السيد في أنه يضعنا في كل فيلم من أفلامه، بل في كل مشهد من مشاهده، أو حتى في كل لقطة من لقطاته، أمام اختيار جمالي يثير فينا هذا الإشكال الدائم الذي يعكس هيئة التناقض، لكل شيء قيمته ومكانته ودوره سواء أكان موجودا داخل الكادر أو خارجه، فمفردات لغته السينمائية محسوبة بدقة متنامية لا شيء مجانيا على الإطلاق ولا توجد هناك زيادة ولا نقصان، فلقطة الافتتاح في أي من أفلامه، لقطة – مشهد طويل جدا – تجعلنا نشعر وكأنها سوف لن تنتهي بل ولا نريدها أن تنتهي، فشخصياته تبدو وكأنهم يبقون ملامح مبهمة غارقة في خط الأفق البعيد لا نستمع إلا إلى أصواتهم كما في غالبية أفلامة.
يأتي لنا، هذا المخرج الرائع غارقا في الفلسفة، بوصف واقعي لحي شعبي في فيلم (الكيت كات)، حيث تجري الأحداث، وينجح داوود عبد السيد بمهارة وحذق في امتلاك ناصية الموضوع رغم واقعيته اليومية، وبصورة بارعة تدعو للإعجاب، ويتمكن بفطنة وقدرة نادرة من إدخال مشاهد شاعرية – رمزية تصل إلى حدود الحلم تكمن فيها المعاني المجازية الكثيرة والمكتنزة، وفي هذا الفيلم يكشف لنا (عبد السيد) عن قابلياته التقنية وامتلاكه لأدوات لغته الفنية والتعبيرية وأسس جمالياته الإخراجية، ونلاحظ أيضا ذلك عن طريق الصور التي تضاعف وجه (الشيخ حسني/ محمود عبد العزيز) عدة مرات أو عن طريق تصوير بعض الأشياء وإضفاء أهمية خاصة عليها أو إبرازها بكل مركز، كتركيزه على لغة جسد محمود عبد العزيز (الشيخ حسني/ الكفيف) أو بواسطة حركات الكاميرا الرشيقة أو في عرض تفصيل محدد لأحد جوانب الديكور في نفس الإطار الصوري (الكادارج) والآثار المحيطة بالصورة.
كان فيلم (الكيت كات) من إخراج دواوود عبد السيد بالغ الجمال والتعقيد، ويمكننا لمس الرؤية الجمالية المتطورة واللغة التعبيرية المتقدمة في كل لقطة والتفاته لكل شيء: مكانه وأهميته ودوره في هذا الأثر الفني البديع الذي خلفه فنان ذو حساسية مفرطة وتواضع جم، سحرته الحياة وامتزجت بروحه وأعماقه فأصبح شفافا ورقيقا يكن هياما وتعلقا كبيرا بالأرض والروح المصرية والطبيعة الشعبية وغنائيتها، وعشقه لمعمارية (الشورع الضيقة) بما توفره من دفء عائلي، ثم أخيرا عرضه لانفعالات (رجل كفيف) ولسعادته المسروقة والهاربة منه في عمر النضوج أو البلوغ، هذه اللوحة الحياتية قدمت كواجهة للواقع الملموس واللاواعي الرابض في داخل النفس.
قصيدة حب داوود عبد السيد
كل شيء في هذا الفيلم يأخذنا إلى أجواء (منطقة الكيت كات) وتاريخها وثقافتها، إنه قصيدة حب مهددة للوطن ومجسدة لحب المخرج وقلقه الشديد على وجوده، ولقد لاحظت في سينما داوود عبد السيد أن الفيلم يصنع لحظة التصوير، وأنا أجبر نفسي على متابعة انسياب الزمن في اللقطة الواحدة والإيقاع الذي هو جوهر اللقطة، يولد من التوتر الزمني في داخل كل لقطة على حدة، والمونتاج يقرب ويربط ويوصل التسلسل والتتابع بين اللقطات المشحونة بالزمن وليس بالمفاهيم، وأنا على المستوى الشخصي لا أعتبر بأن أساس ومعنى وجوهر السينما هو في تقابل وإدماج مشهدين لخلق مفهوم جديد ومعنى ثالث كما قال بذلك (إيزنشتين)، بل على العكس تبدو لي نفس اللقطة كأنها قمة وخلاصة لجميع اللقطات التي سبقتها، هكذا يتكون ويتألف معنى وجوهر اللقطة عند (عبد السيد)، وذلك بعلاقتها الجدلية وليس الميكانيكية مع ما سبقها من لقطات.
هذا فيما يخص الشكل الإخراجي والأسلوبي للغة داوود عبد السيد السينمائية، أما منحاه المضموني فهو يعلن صراحة انتماءه وتأثره بفلسفة وتحليلات وطروحات (فردريك إنجلز) الذي قال: (إن أي أثر فني، من مستوى معين، يكون عميقا وبمستوى الفكرة والرسالة التي يطرحها إذا تجنب المباشرة أصبح مستترا بصورة أعمق)، ومن هنا يأتي التفسير في التجاء داوود عبد السيد لكثير من الإشارات والاستفادات الأدبية والفنية كالشعر بصفة خاصة، والرسم والموسيقى والتلاعب بالنور والظل والألوان والأبيض والأسود والاستعمال الواعي والمتجدد للصوت كعنصر تعبيري مستقل، وللكلمات مكانها وأهميتها المعطاة مثلما هى لدور الأشياء ومكونات الطبيعة التي شكلت وركبت بعناية داخل كل كادر لتوحي بمعان وإيحاءات وبث الكثير من التنويهات والإشارات التي تحملها مشاهد وكادرات أفلامه على قلة عددها نسبيا.
داوود عبد السيد صحافيا
ولد داوود عبد السيد عام 1946 في القاهرة، وأراد أن يصبح صحفيا في بداياته، وأحب السينما بالصدفة حين ذهب مع ابن خالته إلى ستوديو جلال، إلى جانب مشاهدته فيلم (أورفيوس الأسود) للمخرج مارسيل كامو، الذي تأثر به كثيرا وقتها، فقرر أن يلتحق بمعهد السينما، وبالفعل كان ضمن الدفعة الخامسة للمعهد مع المخرجين (علي بدرخان وخيري بشارة)، وتخرج داود من المعهد عام 1967، عام النكسة، وجاء تخرج عبد السيد من الجامعة مصحوبا بتراجيديا مصرية وعربية وهزيمة كبرى عام 1967، يقول عنها: (عشت صدمة عمري، وكان أكثر ما شغلني هو الإجابة عن هذا السؤال المهم: لماذا كانت الهزيمة؟، هزيمة مصر والعرب في 1967، كانت الهزيمة كاشفة لمشاكل كثيرة في المجتمع المصري وفي النظام السياسي المصري في ذلك الوقت، وكانت في الوقت نفسه تمثل عجز جيلنا الذي عرف الحقيقة وانكشفت أمامه بشكل فاضح، وكانت الحقيقة عكس كل قناعات هذا الجيل الذي عاصر حكم عبد الناصر والناصرية.
يضيف داوود عبد السيد: (فوجئنا بهذا الزلزال الذي كشف لنا أننا كنا نعيش في بالونة فارغة نتيجة هذه الجماهيرية الكبيرة والتأييد الكبير لجمال عبد الناصر، أنا لست ضد عبد الناصر بالمعنى الأيديولوجي، لكننا كنا أبرياء في مقتبل العمر، ولم نكن مسيسين، فكان هذا الهم هو أهم ما شغلني في هذه المرحلة الأولى من حياتي)، عندما أخرجت الفيلم الوثائقي (وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم – 1976) كنت مهموما بقضايا إنسانية فيها من الوعي أكثر ما بها من الجذب والفرجة والإثارة، هل هذا هو الطريق الذي رسمته لنفسك منذ البداية؟
طموح داوود عبد السيد
يقول داوود عبد السيد : كان طموحي أكبر من أكون مخرجا، ليس معنى أني تخرجت في معهد السينما أن أعمل في الأفلام؛ كنت أبحث عن طريق أجهل معالمه، ولهذا بقيت وقتا طويلا أختبر نفسي في كتابة السيناريو، وكنت أريد من ذلك أن أنتج عملا ذا قيمة، وعملت في مجال الأفلام التسجيلية، وقمت بتطبيق أفكاري عن الطلبة والفلاحين والقرية والمدينة والمثقفين والفنانين، وكان مجال الأفلام التسجيلية ضيقا، فهي تعرض مرة أو بضع مرات وتنتهي، ولهذا فكرت في إخراج الأعمال الروائية الطويلة، وهذا يرجع لأنني لم يكن يهمني أن أشتغل على سينما تحمل اسمي فقط، بقدر ما همني أن أعبر عن شيء يشغلني، قضيت 10 سنوات من عمري بعد التخرج أكتب سيناريوهات فقط، فكانت عندي القدرة على الكتابة، وعلمت نفسي بشكل ما، ومن خلال التجربة والخطأ استطعت أن أصل إلى عمل أكون راضيا عنه هو سيناريو (الصعاليك – عام 1984).
ولا ننسى الإشارة إلى أن جانبا من أسباب تأخر تجربة عبد السيد في مجال الفيلم الروائي، تعود إلى أنه قد رفض الاستمرار بالعمل كمساعد مخرج، وكان دخوله المجال الروائي من ميدان خارجي، ومظلوم إعلامياً، هو مجال الفيلم التسجيلي، الذي هيئه حقيقة لخوض المجال الآخر، تخلصت من بعض الخوف من الكاميرا، وشعرت أنني قادر على تجسيد فكرة في شكل سينمائي، هذا أعطاني ثقة في أني قادر على تجسيد فكرة، لا تكون مجرد ورق، والجزء الأساسي في التعليم هو من كتابة السيناريو، فلا أرى أن هناك إخراجا وهناك كتابة سيناريو، عندما تتعلم كتابة سيناريو تتعلم الإخراج، والأساسي الذي تتعلمه كيفية أن توصل فكرة.
داوود عبد السيد.. 9 أفلام فقط
المخرج الكبير داوود عبد السيد قدم سينما خاصة وجديدة في تسعة أفلام هى (داوود عبد السيد قدم للسينما 9 أفلام هى (الصعاليك – 1985، البحث عن سيد مرزوق، الكيت كات – 1991، أرض الأحلام – 1993، سارق الفرح – 1995، أرض الخوف – 2000، مواطن ومخبر وحرامي – 2001، رسائل البحر – 2010، قدرات غير عادية – 2014)، ومنذ أول أفلامه كان متمردا على السائد والتقليدي سواء في الصورة التي قدمها في الفيلم أو الموضوعات التي يطرحها حينما قدم أول أفلامه (الصعاليك) بطولة نور الشريف ومحمود عبد العزيز ويسرا ومها أبو عوف، فقدم تيمة الفقر، ثم الانتقال من قاع المجتمع إلي قمته حيث الثراء والنفوذ، وكان هذا الموضوع هو السائد في تلك الفترة بعد سياسة الانفتاح الاقتصادية التي كانت في عهد السادات.
وأستطيع أن أقول في المجمل، يقول داوود عبد السيد: نعم أنا راض، ولكن ليس 100%، فلي أخطائي، وإنما بوجه عام راض عن أي عمل أخرجته وأتحمل مسؤوليته كاملة، وسعيد به أيضا، ولعل كل ما فعلته أنني كنت أسير وراء ما يشغلني في الحياة، بمعنى أنه قد يشغلني موضوع ما أو فكرة ما، فأقوم بتجسيدها من خلال الفيلم، مثلا فيلم (الصعاليك) كانت فكرته عن الصداقة في الوقت الذي كان المجتمع المصري يمور خلاله بالتغيرات الاجتماعية الحادة، وشغلني السؤال عن التغيرات التي من الممكن أن تتركها الثروة في نفوس البشر، وهل ستصمد قيمة الصداقة أمام طغيان المادة والمال؟، كان هذا هو السؤال الذي حاولت الإجابة عنه في الفيلم؛ الصديقان اللذان كانا يحبان بعضهما جدا قتل أحدهما الآخر بتأثير المال.
وفي هذا الصدد يقول داوود عبد السيد: العمل الفني ابن التجربة، وصانع التجربة يخرج منها مختلفا بعد الوعي بها، ويفترض بالجمهور أيضا أن يخرج منها مختلفا بعد مشاهدة العمل الناتج عن تلك التجربة مختلفا عما دخل، بمعنى أن وعيه أضيف إليه بعد ما، وجهة نظر ما، فالعمل الفني الحقيقي يغير البشر، وكلمة (يغير) هنا تأتي بمعني أنه يعطيهم وعيا بموقف ما، وهذا قد يكون ما فعلته في فيلم (الكيت كات) وظهر أثره في الجمهور، ففي فيلم (الكيت كات) كل شخص لديه عجز بصورة ما، والمجتمع نفسه عاجز عن تحقيق رغبات أفراده، والناس يعتقدون أن الآخرين لا يرونهم، في حين أن كل شيء مكشوف ومفضوح.
دواوود عبد السيد والسلطة
ويؤكد داوود عبد السيد: في فيلمي (البحث عن سيد مرزوق، أرض الخوف) وفي أفلام أخرى أحاول أن أتكلم عن مشكلاتنا مع النظام غير الديمقراطي، وأن السلطة بمختلف أشكالها تتحكم وتحكم لمصلحة طرف ما، وأنظمتنا ليست لديها القدرة على التشارك، ولذا سيكون من الطبيعي أن النظام يقمع طبقات لمصلحة طبقات أخرى، وبالطبع، يختلف الجمهور باختلاف المراحل، ولكن خلال مسافات أكثر اتساعا، فقد لاندرك التغيير خلال 10 سنوات، إنما نراه واضحا خلال 20 عاما أو أكثر، وجمهور اليوم مختلف عن جمهور أواخر القرن الماضي، مختلف حتى طبقيا، فعندما كان سعر تذكرة السينما ضمن قدرة مختلف الطبقات كان الجمهور مختلفا عن جمهور اليوم، إذ التذكرة خارج قدرة أغلب أفراد الطبقة الوسطى، ودور السينما نفسها لم تعد مستقلة بذاتها، بل أصبحت سينما (مولات) ولكل سينما جمهور مختلف.
يمكنك أن تتعرف على أفلام داود عبد السيد كلها بمفهوم التحول بالانتقال من حياة إلى أخرى عبر الاكتشاف المتدرج للعالم واكتشاف الذات، حيث تسير الشخصيات داخل سياقات معدة لها بشكل كلاسيكي على الرغم من ابتعاد الأفلام عن التقسيمات النوعية، لكن كلها تتضمن بطلا كلاسيكيا يضاهي أبطال الأساطير والقوانين الأسطورية المتعلقة بالانتقال من العالم العادي إلى عالم المغامرة والتحول داخليا من خلال سلسلة من التغيرات الشخصية والمحيطة، وتميل تلك العوالم للوقوع ليلا ليس فقط بشكل حرفي في الظلام، لكن خارج المواعيد الرسمية للحياة، ينخلع البطل من مواعيد العمل أو مواعيد الحياة والصحو العام لكي يكتشف عوالم أخرى سفلية، على الهامش بعيدا عن المتن، أن يهيم المرء على وجهه عن قصد أو غير قصد أو أن يحتجز رغما عنه في إطار خارج الحياة العامة.
أشهر أقوال دواوود عبد السيد:
** نحن لم نعبر عجز نكسة 1967 حتى الآن من الناحية الثقافية والفكرية؛ فالفكرة ليست فى الانتصار الحربى الذى حققناه فى 1973، الفكرة فى دخول عصر جديد وأنت كمجتمع مسلح بالعلم والثقافة وحرية الرأى والتفكير، وهذا لم يحدث بعد مرور كل هذه السنوات.
** الفن يواجه كافة القضايا بالفعل، لكن يجب ألا نستخدمه كمبيد حشرى، الفن الطبيعى دون أيديولوجيات أو نية مسبقة لمواجهة شيىء سيصل لقلوب الناس، أذكر لك مثلا، قدم موسيقى جيدة ستصل لقلب المستمع بشكل طبيعى.
** أنا لا أفضل الشهرة، أحب أن أحضر (ساندوتش فول) وأتناوله فى الشارع، أحب الاستمتاع بتفاصيل الحياة، أجلس على مقهى، أقف على رصيف، أعيش حياتى بحرية لا يحدها أو يمنعها حاجز الشهرة.
** دائما كان يؤرقنى أن أقدم فيلما ممتعا ويكون جيدا فنيا، فيجب أن تقدم كمبدع فيلما ممتعا وجيدا فى نفس الوقت، وفيلم (من أجل زيكو) ينطبق عليه المعنى الذى أقوله لك، وهو آخر ما شاهدته ونال إعجابى، ونفس الأمر ينطبق على فيلم (ليل خارجى).
** لم يعد هناك وجود لجمهور الطبقة المتوسطة الذى كان يدخل السينما على أيامنا، فهذا النوع الأخير من الجمهور أصبح غير قادر على دخول السينما فى زمننا هذا، فهو يحتاج للذهاب إلى المول التجارى ويركن سيارته ويدفع ثمنا باهظا للتذكرة وأشياء أخرى كثيرة، فأصبح جمهور السينما الحالى ليس لديه هموم كبيرة أو حقيقية.
** البعض يخاف من الخيال، فالتشدد الدينى يصنع خوفا من الخيال، لكن الأغلبية لا يهمها، فلماذا أشغل خيالى؟!، أريح رأسى وأشاهد كم سيارة يتم تكسيرها، وكم شخصا يقتل فى الفيلم، وانتهى الموضوع عند هذا الحد.
** لم يكن قراري بالاعتزال الشخصى، أراه اعتزال جيل، فأبناء جيلى ابتعدوا عن السينما، مثل (بشير الديك وخيرى بشارة وعلى بدرخان) بعد حدوث تغيير كبير فى شخصية الجمهور المصرى، فلا يوجد منتج فى الوقت الحالى يدعوك لعمل فيلم، لأنه يريد نوعا محددا من السينما، وهى السينما التجارية سريعة الربح.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام للمخرج الكبير داوود عبد السيد، الذي ليس مجرد مخرج سينمائى؛ بل هو صانع محتوى وصاحب هم اجتماعى طوال رحلته الفنية، ومن كبار مثقفى ومبدعى مصر، عاش طوال حياته يشارك الجمهور همومه وأحزانه وهواجسه ولقد غاب عن الساحة السينمائية منذ عام 2015، ومن وقتها كتب العديد من السيناريوهات والأعمال الجاهزة على التنفيذ، ولكنها تبحث عن منتج ليقوم بتقديمها لجمهوره الواسع، إلى أن أعلن اعتزاله، وهو القرار الذي كان بمثابة الصاعقة على كل من أحبوا السينما، وعرفوا قيمة هذا المخرج الذي قدم أعمالا تعتبر أيقونات نادرة في تاريخ الفن العربي، وعبدالسيد أكد وقتها أن البعد عن معشوقته أفقده الرغبة في الفن، فقرر أن يغادر الساحة بإرادته معلنا سخطه على كل الخطايا التي تشهدها الحالة السينمائية ويمر بها الجمهور، إلى أن تم الإعلان عن حصوله على (جائزة النيل للفنون)، وهى أرفع جائزة سنوية يقدمها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وأنه يمكن أن يفكر في العودة مرة أخرى للإخراج بعد هذا التكريم .. فهل من عودة لساحر الكاميرا الذي فتننا بشعرية وفلسفة أفلامه.. نتمنى ذلك!