بقلم: ماجد كامل
قليلون من كتاب المسرح أولئك الذين أحدثوا ثورة حقيقية فى الأدب المسرحي لتسطر إبداعاتهم بداية لتيارات جديدة تمثل نقلات جبارة فى تقنيات عالم المسرح والذى يوصف بحق بأنه أبو الفنون، ومن هؤلاء الكتاب القليلين يأتى الألمانى (برتولد بريخت) فى مرتبة متقدمة بوصفه أول من هدم الجدار الرابع على خشبة المسرح، وهو الجدار الوهمى الذي يقف بين الجمهور وخشبة المسرح.
ولد بريخت عام 1898 في مدينة (أوجسبورج) الألمانية، ودرس الطب في (ميونخ)، وهناك عمل في مسرح (كارل فالنتين)، وفي عام 1922 حصل (بريخت) على جائزة (كلايست) عن أول أعماله المسرحية، وفي عام 1924 ذهب إلى برلين، حيث عمل مخرجا مسرحيا، وهناك أخرج العديد من مسرحياته وتزوج عام 1929 من الممثلة (هلينا فايجل).
وتعد حياة بريخت – فى حد ذاتها – عملا مسرحيا مثيرا تنبض أحداثه بالتمرد على المالوف والهروب المستمر ويشكل العام 1933 بداية لأولى فصول هذا التمرد، ففى هذا العام استولى الزعيم النازي (أودلف هتلر) على السلطه في ألمانيا مما دفعه للهرب إلى الدانمارك، ثم هرب مرة أخرى عام 1941 من الدانمارك فارا من وجه القوات الألمانية التي كانت تتوغل في أوروبا وتحتل كل يوم بلدا جديدا، حيث فر إلى (سانتا مونيكا) في كاليفورنيا، وهناك قابل العديد من المهاجرين الألمان الذين فروا من الدولة الهتلرية التي بدأت تمارس القهر والاغتيالات ضد المعارضين، وتفرض اضطهادا لا حدود له وتحرق كتب الأدباء الذين لا ترضى عنهم، حيث كانت كتب (بريخت) من بين الكتب التي أحرقت نظرا لميوله اليسارية التى كانت تحاربها ألمانيا النازية.
وهناك في الولايات المتحدة لم يكن (بريخت) راضيا عن الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في أمريكا، ويمكننا القول أنه قضى بالفعل بضع سنوات عصيبة، شعر فيها بعزلة شديدة حيث لم تعره الحياة الثقافية الأمريكية أي اهتمام يذكر، وفي خاتمة المطاف وفى العام1947 اتهمته لجنة مراقبة النشاطات المناهضة لأمريكا بالشيوعية، وذلك أيام المكارثية الشهيرة ليعود فى العام التالى1948 إلى وطنه ألمانيا وقت تمزقه عقب الحرب العالمية الثانيه إلى دولتين.
ولكن لم يسمح له بدخول ألمانيا الغربية فذهب إلى ألمانيا الشرقية، حيث تولى هناك في برلين الشرقية إدارة المسرح الألماني، ثم أسس في عام 1949 مسرح برلينر إنسامبل (فرقة برلين)، وتولى عام 1953 رئاسة نادي القلم الألماني، وحصل عام 1954 على جائزة (ستالين للسلام)، وقد أثر مسرح (برلينر إنسامبل) على المسرح الألماني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وظل بريخت يعمل في هذا المسرح حتى وفاته في عام 1956.
تأثير عالمى
ويعد (برتولد بريخت) بحق أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في المسرح العالمي، فلقد تعدت شهرته حدود ألمانيا لتصل إلى كافة أنحاء العالم، حتى يمكن القول أن معظم الحركات المسرحية الحديثة خرجت من تحت عباءته، حيث عكست مسيرة (بريخت الفكرية) الأحداث المتلاطمة التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا، ففي ظل النظام العنصري النازى بما يمثله من فاشية سياسية متوحشه وسط غياب تام للوعى الشعبي في ألمانيا النازيه بلور (بريخت) فكرته عن المسرح الملحمي كمقابل للمسرح الدرامي المعتاد، وسعى من خلال هذا اللون المسرحي أن يخلق جمهوراً يستطيع التفاعل مع الأحداث ليتحرر من دوره كمشاهد سلبي.
وتطبع السياسة معظم أعمال (بريخت) المسرحية والأدبية، حيث كان لكتابات (ماركس وهيجل) التحليلية بالغ الأثر عليه، فحاول (بريخت) خلال مسيرته الفنية مخاطبة أكبر عدد من الجمهور لإقناعهم بأهمية تحرير أدوات إنتاجهم من سيطرة رأس المال، وتعد أولى مسرحياته التي لاقت نجاحاً كبيراً هى أوبرا (القروش الثلاثة)، حيث تضمنت المسرحية نقداً لاذعاً لأوضاع النظام البرجوازي أيام جمهورية فايمر، وكان من الطريف أن تلقى المسرحية هذا النجاح والإعجاب من قبل من تعمد (بريخت) انتقادهم.
ويصنف عدد من كبارالنقاد مسرحية (أوبرا القروش الثلاثة) كواحدة من أمهات الأعمال في المسرح الحديث، ويندر أن يوجد مسرح في العالم لم يقدم صياغة لها بشكل من الأشكال.
وبرغم الطابع السياسي لأعمال (بريخت) فقد نجت هذه الأعمال من الفجاجة والمباشرة التي تعيب عادةً المسرحيات السياسية، حتى بريخت نفسه كان ينحى بنفسه جانبا عن الأيديولوجيات في أعماله الأدبية ولم يعرف عنه القيام بتعليقات مباشرة صادمة، فقد كان يفضل تجنب المواجهات الانتحارية مع الأنظمة التي كان يعيش في كنفها، كما يلمح المرء عنده محاولة مستمرة لمراجعة وتنقيح أفكاره وعدم الارتكان على فكرة واحدة منتهية.
وتسعى مسرحيات (بريخت) الملحمية إلى تحفيز الجمهور على إمعان التفكير حتى يُكوّن وعياً خاصاً به تجاه ما يراه، وذلك على العكس من المسرح الدرامي أو الآرسطي حيث يكتفي الجمهور بدور المتابع السلبي، كما تمتد أفكار المسرح الملحمي إلى دور الممثل على خشبة المسرح، محاولة تغير طابع وظيفة الممثل من مؤدٍ إلى عنصر إيجابي في المسرحية، حيث كان (بريخت) يدعو ممثليه إلى جعل قدر من المسافة بينهم وبين النصوص واتخاذ مواقف نقدية منها أثناء أداءها وليس فقط تكرارها بشكل ميكانيكي.
تقنيات بريخت المذهلة
والسؤال الأهم الآن: كيف فاجأ (بريخت) العالم بهذا الإبداع المختلف تماما عن كل ماسبقه؟، والواقع أن الإجابة تكمن في تقنيات هذا المفكر والأديب المسرحى العملاق، ومن أهم تقنياته فى الكتابة المسرحية مااتفق النقاد على تسميته بهدم (الجدار الرابع) والذي يقصد به جعل المشاهد مشاركا في العمل المسرحي، واعتباره العنصر الأهم في كتابة المسرحية، والجدار الرابع معناه أن خشبة المسرح التي يقف عليها الممثلون ويقومون بأدوارهم هى تشبه غرفة من ثلاثة جدران والجدار الرابع هو جدار وهمي وهو الذي يقابل الجمهور، أما ثانى هذه التقنيات فهو التغريب والذي يقصد به تغريب الأحداث اليومية العادية أي جعلها غريبة ومثيرة للدهشة وباعثة على التأمل والتفكير.
كما يبرع (بريخت) فى مسرحه فى المزج الدقيق بين الوعظ والتسلية، أو بين التحريض السياسي وبين السخرية الكوميدية، كما يستخدم ببراعة مماثلة تقنية تداخل الأزمنه عبر استخدامه لمشاهد متفرقة، حيث تتكون بعض مسرحياته من مشاهد متفرقة تقع أحداثها في أزمنة مختلفة ولا يربط بينها غير الخيط العام للمسرحية، كما في مسرحية (الخوف والبؤس في الرايخ الثالث – 1938، فقد كتبها في مشاهد متفرقة تصب كلها في وصف الوضع العام لألمانيا في عهد (هتلر) وما فيه من القمع والطغيان والسوداوية الذى ينبأ بحدوث كارثة.
إضافة إلى ذلك استخدم (بريخت) أغنيات بين المشاهد وذلك كنوع من المزج بين التحريض والتسلية، وتعد مسرحيته (أوبرا الثلاثة قروش) والتى كتبها عام 1928 هى التى حققت له نجاحا عالميا، فقد كانت تصور بطريقة عفوية مبدأ: (في البداية الطعام، ثم الأخلاق)، وقد كان (بريخت) من أهم كتاب المسرح في ألمانيا قبل عام 1933، ولكن بعد استيلاء (هتلر) على الحكم واضطهاده اليهود وإحراقه كتب الأدباء الذين لا ينتهجون نهجا نازيا، هرب من ألمانيا إلى الدانمارك وعاش فيها في الفترة بين عامي 1933 و1939، ثم هرب إلى أمريكا حيث اجتاحت القوات النازية الدانمارك، وكتب في أمريكا أهم أعماله، منها نظريته عن المسرح الملحمي التي نشرها (بريخت) عام 1948، بعنوان (الأرجانون الصغير للمسرح).
وتغلف أعمال (بريخت) حيرته إزاء العالم وقضاياه، ففى نهاية مسرحيته (الإنسان الطيب في ستشوان) يقول (بريخت): (نقف هنا مصدومين، نشاهد بتأثر الستارة وهى تغلق وما زالت كل الأسئلة مطروحة للإجابات).
وفي مسرحية (حياة جاليليو) التي كتبها عام 1943 في المهجر في الدانمارك، تدور الأحداث حول عالم الفيزياء الإيطالي (جاليليو) الذي يتراجع أمام سلطة الكنيسة ويتخلى عن إنجازاته وأعماله العظيمة خوفا من التعذيب والحرق، وترمز هذه المسرحية إلى وضع العلماء الألمان بعد تولي هتلر السلطة في ألمانيا.
وقد تعرف القارئ العربى على أعمال (بريخت) منذ أكثر من ستين عاما عبر ترجمتها إلى العربية من الألمانية، والتى تاتى فى مقدمتها مسرحيات (دائرة الطباشير القوقازية، والأم الشجاعة وأولادها، والإنسان الطيب في ستشوان) وهى المسرحيات التى ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي.
وقد لقى أدب بريخت المسرحى اهتماما كبيرا فى مصر خلال فترة التى ازدهرت فيها كافة ألوان الفكر والثقافه حيث عرضت لبريخت مسرحيات عدة مسرحيات من أهمها (دائرة الطباشير القوقازية) والتى أخرجها سعد أردش في القاهرة عام 1962، كما عرضت له مسرحية (القاعدة والاستثناء) سنة 1963
والآن فإنه على الرغم من كل تلك السنوات البعيدة التى تفصلنا عن عن رحيل (بريخت) عن عالمنا فإن الأثر الإنسانى العميق الذى تتركه أعماله بتناولها لأهمية تحرر العقل والوعى البشرى تكسب هذه الأعمال خلودا يتحدى الأيام والسنوات.