بقلم : محمد شمروخ
ليس عندى سوى تفسير واحد لقيام السيد الدكتور رضا حجازى وزير التربية والتعليم بتكريم الفنانة الكبيرة (لبلبة) بسبب دورها في أحد المسلسلات كمديرة لإحدى المدارس، وهو أن وزارة التعليم قد عدمت وجود شخصية تربوية تستحق التكريم من وزيرها في الواقع الفعلى بجميع مدارس جمهورية مصر العربية التابعة لإشراف وزارة التعليم، سواء كانت هذه المدارس مدارس عامة أو خاصة أو أجنبية!، لذلك لجأت لعالم الدراما كعالم مواز يقدم لنا على الشاشات ما نعجز عن العثور عليه في واقعنا!
وأرجو أن نكون صرحاء مع أنفسنا، فتلك الشخصية التربوية التى نفترض فيها المثالية التى تحوى كل معالم الإخلاص والفداء والبذل والعطاء دون انتظار مقابل لم تعد تلقى اهتماما من أحد ولا يريد أحد أن يراها، فأنا على ثقة أن من بين المربيين والمربيات من رجال ونساء التعليم في مصر مازالوا موجودين بكثرة، لكن لا أحد يهتم بهم لأنه في الواقع لم يعد أحد في حاجة إليهم لأنهم لم يقيموا أنفسهم حسب قواعد السوق الحرة التى تعيد تقييم كل شيء على أسس برجماتية صارمة ولا ترى في الإنسان إلا واحدا من ثلاثة (منتج – مستهلك – وسيط).
فلعل كلمة التربية التى تسبق التعليم باقية فقط كجزء من اسم الوزارة دون ضرورة لوجودها الفعلى، لأن التعليم في مصر أصبح سلعة قابلة للعرض والطلب والتربية كمعنى عرفناه ووعيناه بالمعنى الاجتماعى والأخلاقي، قد تخلت عنه الوزارة منذ أن غابت المدرسة عن التعليم، فمنذ ما يقرب من 10 سنوات أو يزيد لم تعد المدارس تهم التلميذ أو الطالب سوى في القيد ونسب الحضور والغياب وختم الشهادة.
أما المدرس فقد تخلى عن دوره التربوي ليصبح مجرد ملقن للدروس مقابل أجر، سواء كان هذا المدرس يعمل في مدارس حكومية لا يعتمد إلا على تلقين الدروس الخصوصية أو كان كمدرس محظوظ أتيحت له فرصة في المدارس الاستثمارية التى تتعامل مع طالب العلم كعميل يتلقى خدمات فندقية بجوار التلقين التعليمي.
وأنا كواحد من أشد المعجبين بالفنانة (لبلبة) أرى أنها تستحق التكريم عن جدارة كممثلة، لكنها للأسف لم تتح لها الفرصة لإخراج قدراتها التمثيلية إلا في وقت متأخر بالنسبة لتاريخها الفنى، فلم يتم اكتشاف قدراتها تلك إلا بعد أن تخطت مرحلة الفتاة الشقية المرحة والمطربة الاستعراضية، لكن كنت أرجو أن يتم تكريم لبلبة في نقابة الممثلين أو في وزارة الثقافة كممثلة قديرة قبل أن تكرمها وزار التعليم بمناسبة أحد المهرجانات التى تقيمها الوزارة!.
لكن يبدو أن لبلبة بحثت عمن يكرمها من الجهات ذات الصلة بالفنون التمثيلية، في الوقت نفسه الذي كان وزير التعليم يبحث فيه عمن يستحق التكريم من بين العاملين في الوزارة، فلما لم تجد لبلبة من يكرمها وكذلك لم يجد الوزير من يستحق التكريم، قرر تكريمها كنموذج تربوى تعليمي ولو في عالم افتراضي، وهنا لم يبق للعاملين بالتعليم إلا أن ينتظروا تكريمهم من جانب نقابة المهن التمثيلية، كي تتم عملية المقاصة دون غبن أو إجحاف لأى من الأطراف المكرمة بكسر الراء أو المكرمة بفتح الراء (مع تشديدها في الحالين).
لكن الواقع المؤلم لوزارة التربية والتعليم وحال التعليم في مصر، أنها أهملت على مدار عقود من السنين شطر اسمها الأول (التربية) تجاه جيل يحمل مسئولية هذا البلد فقد تم إهمال هذا الشطر على الأقل منذ أن تم إهمال المواد التى تعلم الانتماء الوطنى والتى كانت تتصدرها كلمة (تربية) فصارت مثلا مادة (التربية الوطنية – التربية القومية سابقا) مادة ثانوية تعتمد على مقولات هشة مضحكة لا أثر فيها لتعليم الوطنية ولا الانتماء.
كما صار التاريخ مع أنه مادة أساسية (وهو مستودع التجارب الوطنية الحقيقية) مجرد معلومات للحفظ لا يكف كثيرون عن التشكيك فيها، فصار التلميذ يتعامل مع وطنه كتحية علم مهملة في الصباح وسطور في كتاب لا يهتم به أحد كذلك صار تاريخ بلده مثارا للشك وأحيانا للسخرية!
لست بحاجة إلى أن أحدثك عن إهمال التربية الدينية والتى صارت في نظر كثيرين دروسا في التطرف والإرهاب والفتنة!، فماذا تنتظر من تلميذ فقد الأسس الدينية والقومية والوطنية في سنوات التكوين الأساسية في عمره؟
النتيجة أننا أصبحنا أمام أجيال مهددة بالمسخ ومن ثم لديها قابلية للتشكيل لأى ملامح أخرى غير الملامح الوطنية والقومية والدينية التى تميز أى شعب وتؤسس لخصوصيته بين كل الشعوب في كل مكان في العالم!.
لكن وزارة التعليم لم تعد تهتم بتكوين الشخصية الوطنية المصرية، إذ انشغلت بهوس موسمى يدعى بتطوير المناهج، حيث يأتى كل وزير ليجرب فينا طريقة ما تلبث أن تتغير بتغير الوزير نفسه والنتيجة.. مسخ تعليمي بلا أى تربية حقيقية!.
فحال التعليم في مصر صار بين مستويين يشكلان الآن شرخا عميقا في صميم جدار البيت المصري.
الأول : تمثل في مدارس حكومية لا يجد فيها التلميذ مقعدا للجلوس ولا مدرسا للتعليم ولا ناظرا للإدارة ولا حارسا لضرب الجرس ولا فراشا لأعمال النظافة، أما سارية العلم، فعمود قائم بلا أى علم يرفرف في وسط أفنية الكثير من المدارس!
والثانى : يظهر في شرخ أكثر عمقا تمثل في المدارس الاستثمارية بدرجاتها التى بدأت تقسم المجتمع إلى فئات تتفاخر بقدرتها على الانفصام عن المجتمع المصري حتى صارت لدينا مجموعات لا تكاد تعرف شيئا عن واقع ولغة وتاريخ وشخصية هذا البلد، كما أنك تراهم في حواراتهم لا يتحدثون بالعربية أو حتى باللهجة العامية ويرونها عارا ودليل تخلف وجهل.
فهذا الانفصام الثقافي وهذه الشروخ الاجتماعية وهذه الانحطاطات الفنية والثقافية، كانت نتيجة ضرورية للعبث بالعملية التعليمبة التى تخلت عن الدورالتربوى بابتعاد التلميذ عن المدارس والتعامل مع المدرسة ومدرسيها على أنهم يقدمون له منتجا تجاريا ويبيعون سلعا استهلاكية أو وسطاء إلى الدروس الخصوصية أو السناتر!
والتعليم صار هم الأسرة المصرية الأول، حتى أنها ربطت حياتها به وصارت أيام الدراسة ثلاث أرباع السنة حالة من الطوارئ في كل بيت وحتى الإجازة صارت استعدادا لهم أكبر قادم في الطريق
والمحصلة؟!
ما تراه الآن من فوارق اجتماعية وثقافية تهدد البنية الأساسية للشخصية المصرية، فقد صارت أشكال التعليم فواصل اجتماعية وثقافية بين طوائف وفئات المجتمع وترجم ذلك في ظهور نوع جديد من الطبقية الحادة حتى عاد تصنيف الناس على أسس غير الأسس التى عرفناها وسبق أن رفضناها من قبل، والخطر الحقيقي الماثل والذى ترجم في هذا التفاصل الاجتماعى عن انعزالية مجتمعات بكاملها وراء أسوار منفصمة عن الواقع اليومى عمدا، فيما عرف بالكمباوندات، تلك الظاهرة التى لو بحثنا في أساسها لوجدنا جذورها في الفروق التعليمية، فهناك مشروعات إسكان ونواد اجتماعية ورياضية تتباهى بأنها تشترط على السكان أو الأعضاء إثبات الحصول على درجات تعليمية عليا ووظائف ذات بريق، مع ضمان شرط الثراء مسبقا في أسعار البيع والاشتراك الباهظة، وهذا نوع من ممارسة التعالى البغيض الذي يجعل الإنسانية قيمة مهملة فى المجتمع ويعيد خلق مجتمع النصف في الألف مما يهدد سلامة البناء الاجتماعى بل والأمن القومى للبلاد!.
الأمر ليس تهويلا، فخلال الربع قرن الماضي حدثت تغيرات حادة في البنية الاجتماعية والثقافية المصرية كان أساسها اضطراب العملية التعليمية وتخلى المدرس والمدرسة عن الدور الأساسي وصار التعليم نفسه وسيلة للصراع الاجتماعى لكسب مراكز وظيفية والبناء على أسسها درجات اجتماعية تحولت مع الوقت لتصنيفات إنسانية وتلك هى الطامة الكبرى والخطر الداهم على أساس المجتمع.
ستسألنى سؤالا مباشرا: وما دخل وزير التعليم بكل هذا؟ّ!
وسأجيبك بصراحة إن لم تر في أن هذه مهمة وزارة التربية والتعليم الأولى فلا داعى لأن تكمل قراءة المقال من الأساس!
ولا أجد مسئولا عن سيادة الثقافة الاستهلاكية واتخاذ النفع المباشر كوسيلة للحكم على القيم، إلا في وزارة التعليم التى تحتكر بطبيعتها أدوات التكوين لتبنى مشروع إنسان المستقبل في هذا البلد، فهذا البلد ليس مجرد موقع جغرافي وحدود سياسية وجبال وصحارى وأنهار وزروع ومبانى خاصة وعامة، فلن يقوم هذا الوطن إلا بقيام الإنسان المنتمى إليه ولن يتعلم الإنسان الانتماء حتى يجد من يعلمه ولن يتربى على حب هذا البلد إلا لو وجد من يربيه.
قدرك يا دكتور رضا أن تتولى أهم وزارة في البلاد، وزارة مهمتها صناعة الإنسان الذي سيشغل حتما كل موقع في هذا البلد، كبيرا وصغيرا، مهمتك ثقيلة كمهمة من كان قبلك أو سيأتى بعدك!
الصورة قاتمة وخطيرة ووصل الأمر بنا للبحث عن النموذج في عالم الدراما بعيدا عن عالم الواقع، فرصتك أنك أكثر من تولوا مسئولية هذه الوزارة دراية بدروبها لأنك بدأت من أولى درجاتها كمدرس ثانوى حتى انتهى بك الأمر بكرسي الوزارة، فأمامك فرصة تاريخية لإعادة ترميم الشخصية المصرية التى يتربص بها المتربصون في الداخل والخارج، والبداية أن تنتقل بنموذج (زهرة) التى قامت بدورها الفنانة (لبلبة) من عالم الدراما إلى عالم الواقع لتنقذ ما يمكن إنقاذه ولا تكتفى فقط بحفلات تكريم والتقاط صور للذكرى!