بقلم : محمود حسونة
قالوا إن (الفن يسبق عصره)، وإن المبدع يمكن أن يستقرئ الواقع ويترك لخياله العنان ليتوقع عواقب الظروف الآنية التي تعيشها البشرية، محبطات أو إنجازات في المستقبل، وهو الكلام الذي أكدته بعض الأعمال الفنية وعلى رأسها المسلسل الكرتوني الأمريكي الأشهر (سيمبسون) الذي صدم الناس عبر حلقاته الـ 600 بما حمله من تنبؤات بأزمات سياسية واغتيالات وتوترات دولية وإقليمية وابتكارات تقنية، ليسلم الكثيرون بأن شطحات الفن تكون أحياناً جرس إنذار من كوارث قادمة، أو أداة تنبيه مرة وتبشير أخرى بتغيرات ستحدث في أنماط الحياة وأدوات العيش، وعندما يخرج عبقري هذا الزمان (إيلون ماسك) وهو الأغنى في العالم والأكثر تحكماً في عالم التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي ليقر بأن المسلسل البريطاني (المرايا السوداء) كان سباقاً على عباقرة التكنولوجيا في توقعاته الإليكترونية، فلا نملك سوى أن نبصم صامتين على قدرات بعض المبدعين على التنبؤ بالقادم، مع رسائل التبشير والتحذير التي تحملها أعمالهم الفنية.
ولا ننكر أن المبدع المصري كانت له أيضاً بعض القراءات السابقة لعصره، ولكنها كانت محدودة جداً، وتكاد تقتصر على المبدع الراحل وحيد حامد، الذي تنبأ بأحداث الأمن المركزي التي وقعت في مصر العام 1986 قبل وقوعها من خلال فيلم (البريء) الذي أخرجه الراحل عاطف الطيب ولعب بطولته سيد فن التمثيل أحمد زكي وتم عرضه قبل الأحداث مباشرة، وأيضاً الراحل الكبير يوسف شاهين الذي تنبأ بفوضى يناير 2011 في فيلمه (هي فوضى) الذي عرض عام 2007، وبنى الرجل توقعاته بالفوضى على استشراس الفساد وازدياد تجاوزات الشرطة حينئذ، وهو ما كان مبرراً لاشتعال الشارع المصري في يناير المشؤوم.
مع التسليم بكل السالف ذكره، فإننا نسلم أيضاً بأن قليل بل وقليل جداً من المبدعين الذين يملكون القدرة على استقراء الواقع برؤية مستقبلية تتنبأ بما يمكن أن يخرج مستقبلاً من رحم الحاضر الذي يأتي جنينه حاملاً جينات الواقع بكل تشوهاته ومفاسده وتجاوزات أصحاب القرار فيه، أما الكثير بل والكثير جداً منهم يعجزون عن رصد الواقع ونقله من دون أي رؤى، بل يقدمون أعمالاً تروج لكل ما هو رديء، وبدلاً من أن تحمل أعمالهم تحذيراً من قيم هدامة فإنهم يروجون لها، وبدلاً من أن تطلق أعمالهم صرخات لتنبيه الناس وإيقاظهم من غيبوبة أخلاقية ستخلط الحابل بالنابل، ومن طوفان سيجرف الجميع ولن يفرق بين هذا وذاك، فإنهم يقدمون أعمالاً تعجل بساعة الهلاك وتنشر كل رذيل بين الناس، ولعل النموذج الساطع في ذلك، الأعمال الفنية التي تروج بوقاحة للشذوذ أو ما يسمونه المثلية، وتبني شركات إنتاج عالمية كبرى بمبدعيها وتقنييها وفنانيها لهذه الأعمال، ولا يقتصر الأمر على الشذوذ فقط بل يروجون لكل هادم للقيم ولكل ما يشجع على التمرد والعصيان على أنماط الحياة السوية التي كرسها السابقون، وبالنسبة لشواذ الابداع والفن فقد حان وقت هدمها.
شاهدنا في رمضان الماضي مسلسلاً فيه الكثير من مقومات النجاح، مسلسل (أحلام سعيدة) واستمتعنا خلاله بأداء بطلته يسرا التي تمردت على ما كان مألوفاً منها لتجدد موهبتها وتؤكد أن قدرة الفنان على التجدد دائمة ولا ترتبط بعمر معين، كما استمتعنا بأداء الفريق المصاحب لها، ولكننا فوجئنا بهم يضعون بعض السم في عسلهم، من خلال شخصية ابن فريدة هانم (ابن يسرا)، الذي يقاطع والدته ويعيش بعيداً عنها، بسبب اصراره على عدم الالتحاق بالجامعة وعمله كفنان (ستاند أب كوميدي)، وذلك نتيجة عدم إيمانه بجدوى التعليم الجامعي، بل وعدم جدوى التعليم، بجانب ارتباطه بفتاة تدرس في الجامعة الأمريكية وتعيش معه من دون زواج لإيمانها هي الأخرى بعدم جدوى التعليم وايمانهما سوياً بحقهما في العيش بدون زواج، وتأكيدهما مراراً بأن الزواج مؤسسة فاشلة.
وإذا كان الشاب والفتاة قد رضخا لضرورة الزواج بعد حمل الفتاة، إلا أن الابن ظل مصراً حتى انتهى المسلسل على عدم قناعته باستكمال الدراسة، وبعد أن ظلت والدته مقاطعة له لهذا السبب طوال الحلقات، رضخت لقناعته في الحلقة الأخيرة، وكأن المسلسل يشكك في جدوى التعليم الجامعي، أو يطالب بترك أبنائنا يختارون مستقبلهم حتى ولو كان بدون تعليم.
لم يكن (أحلام سعيدة) وحده الذي تبنى هذا الفكر الرديء، ولكن تبناه مسلسل (مين قال) الذي لعب بطولته جمال سليمان وأحمد داش، مع مجموعة من الشباب، وهو العمل الذي هلل له الكثيرون باعتباره فتح عظيم في عالم الدراما الموجهة للشباب، والمعتمدة عليهم، من خلال ستة أصدقاء يتخرجون من الثانوية ليشق كل منهم طريقه إلى الجامعة التي يرغبها أو التي تتوافق مع مجموعه باستثناء واحد يصر والده على إلحاقه بكلية الهندسة، وهو يصر على كلية أخرى في البداية ثم يرفض الكلية تماماً، ولا يجد أمامه من مفر سوى خداع والديه وايهامهما أنه يذهب يومياً للجامعة، في حين يذهب إلى بيت صديقة له أقام فيه ورشة لتحقيق حلمه في صناعة أثاث غير مكلف، ويسعى لتحقيق حلمه بريادة الأعمال من خلال هذا الباب، وبعد أن يكتشف والده الحقيقة يطرده من البيت، حتى يكتشف بعد فوز ابنه في مسابقة بجائزة أفضل مشروع للشباب، يرضخ والده ويعلن سعادته على قدرة ابنه تحقيق ذاته من دون تعليم!!
الغريب أن هذين النموذجين رفضا التعليم الجامعي من دون تعويضه بدورات تدريبية تصقل موهبتهما أو ورش أو أي شكل للتعلم.
ليس عشوائياً أن يتم عرض مسلسلين يدعوان الشباب لعدم الالتحاق بالجامعة في موسم واحد، بل هو تقليد أعمى لموجة في السينما العالمية تتبنى هذا الفكر الشاذ مثلما تتبنى الترويج للمثلية، وآخر الأفلام العالمية التي تروج للانصراف عن التعليم الجامعي هو فيلم (والد العروسة) بطولة النجم آندي جارسيا، يلعب فيه دور والد لفتاتين إحداهما تتخرج مهندسة من الجامعة والثانية ترفض الالتحاق بالجامعة بدعوى أنها موهوبة في تصميم الأزياء، وفي زفاف أختها تقوم بتصميم فستانها فيرضخ الأب أمام موهبتها معلناً دعمها بعد اكتشافه أنها على حق!، وهذا العمل وغيره من الأعمال التي طرحت هذا الأم. تنتهي بتسليم الأب أن الابن أو البنت على حق!!
ماذا حدث بين الأمس واليوم؟، بالأمس علمونا أن التعليم هو الطريق لنهضة الأمم، وطريق الأفراد لتحقيق ذاتهم، واليوم يروجون إلى أن تحقيق الذات ممكن بدون تعليم ولا تدريب ولا تأهيل ولا صقل لموهبة، والالتحاق بالجامعة أمر ثانوي، والموهوب مكانه خارج الجامعة لإثبات موهبته.. ألا يمكن ممارسة الموهبة خلال التعليم الجامعي؟ وألا يمكن أن تكون الجامعة الطريق لصقل الموهبة؟ وألا يمكن أن تكون الجامعة بما أصبح فيها من تخصصات دقيقة وتناسب كل المواهب طريقاً لإبداع أكبر ووسيلة لاكتشاف الموهوب جوانب في موهبته قد تكون خافية عليه؟.
انها مجرد تساؤلات تفرض علينا جميعا التفكير فيها.
mahmoudhassouna2020@gmail.com