بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
قامت الدنيا و لم تقعد منذ بدء إذاعة حلقات الجزء الثالث من مسلسل (الاختيار) ، وانطلق ضد المسلسل هجوم حاد من مؤيدى الاخوان و كارهى النظام الحالى ، وإشادة ضخمة من كارهى الإخوان و مؤيدى النظام ، و اشتعلت الحملة بين الطرفين حتى صار الخلاف حول المسلسل بابا جديدا للتصنيف السياسى ، و فرصة لتبادل الاتهامات ، فكل ناقد للمسلسل هو إخوانى و عميل أو على الأقل كاره للبلد ، و كل مؤيد للمسلسل هو دولجى و أمنجى أو على الأقل ضد الديمقراطية و مع الانقلابات العسكرية . و مضى كل طرف فى سب الآخر و كيل الشتائم له ، حتى من حاولوا مناقشة المسلسل بموضوعية أو إمساكا للعصا من المنتصف نالهم من الحب جانب .
و فى خضم كل هذا ضاعت المعايير الفنية فى تقييم المسلسل و أصبح الاقتراب منه محفوفا بالمخاطر ، و لم يتعامل أحد معه كعمل فنى يتحدث عن فترة تاريخية هامة من فترات تاريخنا المعاصر ، بل كانت تلك إحدى نقاط الهجوم، حيث ادعى بعض الكارهين تزوير الحقائق من خلال المسلسل أو على الأقل إنه التاريخ كما يكتبه المنتصرون أى من وجهة نظر واحدة . و تسلل بعض الخائفين من الهجوم الصريح على المسلسل من زاوية أن الوقت لم يحن لمناقشة الوقائع التى يحكيها بموضوعية و تجرد . المهم أن المسلسل تسبب فى زوبعة كبرى يثيرها كل عام و لكنها فى هذا الجزء فاقت ما سبق ، و لم يصادف مسلسل مصرى آخر هذا الكم الضخم من الجدل على ما اعتقد ، و ضاعف منه أمران :
الأول : هو كم التعتيم الذى تم فرضه على موضوع هذا الجزء و عدم نشر أى أخبار عنه أو تسريب صور لأيا من المشاركين فيه ، بل وصل الأمر لعدم توزيع نسخ السيناريو على بعض الممثلين فيه و لم يعرفوا طبيعة أدوارهم إلا فى موقع التصوير. و هذا التعتيم الشديد نجح فى مفاجأة الجمهور سواءا ممن هم مع الموضوع أو ضده، كما نجح فى عدم إثارة الجدل قبل إذاعة الحلقات ، و إن كان البعض فسرها تفسيرا آخر يدور حول ضرورة موافقة جهات سيادية على المسلسل و أن الموافقة لم تتم إلا قبل اذاعة الحلقات بأيام قلائل.
الثانى : هو تقديم بعض الممثلين لشخصيات معاصرة ، أهم تلك الشخصيات مازال على رأس السلطة و هو أمر لم تألفه الجماهير ليس فى مصر وحدها بل فى الوطن العربى . بل هى ظاهرة نادرة حتى فى الفن العالمى ، أن يتم تناول شخصية سياسية فى عمل فنى و هو مازال فى السلطة ، و لكن الاستثناء الأكبر كان فى مسلسل (التاج) الذى قدم – و مازال – تاريخ بريطانيا من خلال خمسة أجزاء – حتى الآن – تروى قصة حياة الملكة الحالية إليزابيث الثانية و الذى بدأ إذاعة ألى حلقاته 2016 و فاز على مدار أجزائه بحوالى 138 جائزة . و كان صريحا و جريئا فى تناوله و لم يتغافل حتى عن فضائح بعض أفراد الأسرة المالكة.
وإذا توقفنا أمام ( الاختيار ) بشكل فنى بحت سنجد أنه ينتمى للدراما التسجيلية ، حيث يتفق مع الأعمال التسجيلية فى أنه يروى وقائع حدثت بالفعل ، و لكنه يقدمها بممثلين يشبهون الأبطال الحقيقيين و يستخدم لقطات واقعية فى بعض الأحيان يدمجها داخل السرد ، و لهذه النوعية صور متعددة سواء كانت تتعامل مع أحداث معاصرة أو تاريخية أو سيرة ذاتية ، و رأينا تجلياتها فى أفلام كثيرة تم إنتاجها عن (جيفارا) وثورته المستمرة فى أحراش أمريكا اللاتينية، أو فى فيلم (الشتاء على نار) الذى أعاد تصوير الثورة فى أوكرانيا ببعض أبطالها الحقيقين بمشاركة بعض الممثلين، أو مثل فيلم (البابوان) أو اثنين من البابوات الذى قدم قصة اختيار البابا (بندكيت السادس عشر) لخليفته.
و لكن كاتب مسلسل (الاختيار) أضاف للأحداث الواقعية قصصا فرعية خيالية تؤكد على الأحداث التاريخية و تفسرها وتزيدها تأثيرا مثل قصة الصيدلى المسيحى وزوجته ، أو قصة الأصدقاء الثلاثة ( الموظف و التاجر و صاحب المطبعة )، ولكنه للأسف الشديد توسع فى تلك القصص حتى حشر فيها مشاهد لا داعى لها ، و لو تم التخلص منها لكان ذلك أفضل ، ولكن يبدو أن هناك (باترون) نجح فى الجزء الثانى الذى قام بكتابته فحاول إعادة انتاجه ، مثل قصة حب أحمد مكى وأسماء أبو اليزيد التى كانت من أنجح مشاهد ذلك الجزء ، فحاول إعادة تقديمها من خلال أحمد عز ، و مثل قصة مرض زوجة الضابط فى الجزء الثانى (كريم عبد العزيز) ، فأعادها مع أحمد السقا وأضاف لها وفاة الزوجة ، وعندما أضاف مشاهد لمعاناة الأب (أحمد السقا) بسبب ابنه نسى ذلك الخط تماما فى الحلقات الأخيرة . و ليس هذا الخط الوحيد الذى نساه ، فماذا عن شقيق ضابط أمن الدولة الذى ارتبط بفتاة أبوها من قيادات الإخوان؟.
إن مثل هذا الخط كان من الممكن أن يصنع دراما جيدة لو أنه أجهد نفسه قليلا فى صنع صراع بين الضابط و أخيه لو أن ذلك الأخ اقتنع بأفكارهم !! ، و للإجابة ببساطة عن مامدى الاستفادة من تلك القصص علينا أن نسأل أنفسنا : هل لو تم حذف تلك المشاهد سيتأثر المسلسل ؟ و نترك لكم الإجابة.
بالتأكيد إن المؤلف وضع تلك المشاهد من أجل اضفاء جانب إنسانى لهؤلاء الضباط، ولكنه بالتأكيد أيضا أنه لم يحسن استغلالها ، فلم نتعاطف مع أى قصة منهم و بدت محشورة ، و حتى علاقة الصداقة بين الضباط الثلاث الذين ينتمون لجهات أمنية مختلفة تمت ترجمتها فى مشاهد لا ضرورة لها، حيث يجتمعون فى مكان بعيد من اجل تكرار معلومات أو من أجل أكل الكشرى !!
الأمثلة اكثر مما يتسع لها مقال واحد عن الفرص الكثيرة التى أهدرها المؤلف لصنع دراما موازية تؤكد على الموضوع ، فهناك شخصية القاضى ووالد ضابط المخابرات التى قدمها الفنان خالد زكى ، ألم يكن ذلك سبيل لتقديم جزء من حركة القضاة الرائعة ضد الإخوان، وخاصة أنها مليئة بالأحداث و بالصراع بين تيارين ، حتى ذلك الفتى الذى هاجر فلقى حتفه لم يعطنا المؤلف الفرصة لكى نحبه و نتعاطف مع موته الذى تسبب فيه الإخوان كما حاول أن يقول !!
تلك بعض أمثلة على إهدار فرص صناعة دراما موازية ، و السبب أن الاأور فى غالبيتها مؤخوذة فى عجالة و من فوق السطح ، فحتى عندما قدم لنا إحدى القصص الحقيقية عن شهيد من شهداء الإخوان و هو الصحفى الحسينى أبو ضيف لم يتوغل فى حياته و شخصيته و مدى نجاحه كصحفى و أهمية ما كانت تحمله الكاميرا الخاصة به من صور و قدم الأمر فى عجالة ، فى حين أن حياة الحسينى كانت تصلح كأحد الخطوط منذ بداية الحلقات حتى لحظة استشهادة .
هذا الترهل والاستسهال ، ومد خطوط و دم الاستفادة منها كان من الممكن أن يؤدى إلى فشل ، خاصة و أنه فى هذا الجزء أيضا لا يوجد شخصيتين يلخصان الصراع مثل الجزء الأول (المنسى / عشماوى) ، و لكن ما أنقذ المسلسل هو المتن الأصلى ، فالأحداث الواقعية ضمنت للمسلسل النجاح وأن يتحمل المشاهد كل هذه القصص المضافة بلا طائل كى يشهد وقائع كان بعضها خاف عليه، فكلها أحداث مليئة بالصراع بين جماعة تجر الوطن ألى هاوية الحرب الأهلية ، وبين مجتمع يحاول العودة إلى تماسكه ومقاومة الانهيار والدخول فى النفق المظلم ، مجتمع علق أمله كله على الجيش من إجل إنقاذه فلم يخذله . فمازلنا نذكر مناشدات المثقفين و الفنانين للجيش و لقائده بالتدخل فى مناسبات عدة و استعجالهم التخلص من هذا الكابوس، ورد قائد الجيش المطالب بالصبر والتحوط من نزول الجيش مرة أخرى . و جاء المسلسل ليوثق أن الجيش لم يتحرك إلا بعد أن تأكد من اقتراب الوطن من حافة الحرب الأهلية.
إن هذا الجزء من المسلسل يوضح أن الصراع بين جماعة الإخوان و من ورائها تيار الإسلام السياسى وبين مصر – كلها – هو الأساس ، بينما الجيش و قائده يحاولون مع الرئيس ألا يكون لعبة فى أيدى مكتب الإرشاد وأن يكون بحق رئيسا لكل المصريين وألا يهتم إلا بمصلحة مصر فقط ، و يحسب للمسلسل أنه لم ينزلق لتصوير شخصية محمد مرسى بشكل كاريكاتورى كما كان يبدو فى خطاباته ، بل قدمه كشخصية منقادة ومغلوبة على أمرها ، يدرك إنه لو خالف تعليمات مكتب الإرشاد فلن يرحمه ! وبذلك كشف لنا المسلسل عن كواليس أحداث كثيرة.
صحيح تم تجاهل بعض الأشخاص الذين كانت لهم مشاركات هامة فى الأحداث – مثل محمود بدر أحد قادة تمرد – و بعض الأحداث لم تعرض بالتفصيل مثل معركة المثقفين مع الوزير الإخوانى واكتفى المؤلف بمواجهة (مفترضة) بينه و بين الدكتورة إيناس عبد الدايم ، و لكن التعامل مع المسلسل على أن عليه أن يذكر الكل و يسجل كل الأحداث أمر غير دقيق ، ففى النهاية نحن نتعامل مع فن و ليس كتاب تاريخ .
و من أسباب نجاح المسلسل أيضا هو الاقتراب إلى حد التطابق أحيانا من الناحية الشكلية بين الممثلين و الشخصيات الحقيقية و انبهار الجمهور بهم و لكن عند تطبيق المعايير الفنية فهذا حديث آخر ، و حتى الممثلين الذين حاولوا تقليد (الأصل) تعاملوا مع جانب واحد من الشخصية ولم ينفذ بعضهم الى روحها ، و ربما نعود إليهم تفصيليا فى حديث آخر.
و يبقى أمر مهم و خطير انفرد به المسلسل ، وهو كمية من التسجيلات الحقيقية لجماعة الاخوان المسلمين كان يختم كل حلقاته بأجزاء منها ، هذه التسجيلات لم يكن لها علاقة قوية – فى بعض الاحيان – بموضوع الحلقة ، و لكنها كشفت عن أمور كثيرة أهمها أنهم جماعة بلا ذمة و لا يحفظون عهدا : يتحالفون مع السلفيين ولكن ليس لديهم مانع من الإبلاغ عنهم! ويغتابون بعضهم البعض فى الغرف المغلقة! ويتراجعون عن وعودهم مثلما أقروا بعدم الترشح لرئاسة الجمهورية ثم نكصوا! هذه التسجيلات التى يبدوا أنها سجلت فى مكان واحد وعلى فترات متباعدة تحتاج إلى اعادة رؤية و دراسة، فكل تسجيل مرتبط بتاريخ ووقائع تفسره وتشرح معناه ، وهى ثروة قومية و كنز تاريخى للأجيال القادمة يكشف تفاصيل ماحدث خلال سنوات قريبة مازالت أسرارها مخفية .. فلماذا حجبها و ترك الأمر للاجتهادات؟
اعتقد أن كثيرين سينضمون إلى فى المطالبة بإذاعة تلك التسجيلات كاملة – فى حدود ما يسمح به الحفاظ على الامن القومى – من خلال برنامج يشارك فيه محللين سياسين، و رجال علم نفس يشرحون و يحللون هذه التسجيلات.