بقلم : علا السنجري
حين تجد اسم الكاتب (عبد الرحيم كمال) على عمل درامي ستجد نفسك أمام عمل درامي به قيم فكرية وعالم من الأسرار يحمل دلالات ورموز صوفية ، لكن بأجواء الشخصية المصرية .
جزيرة غمام عمل قدم صورة فلسفية في حكاية أسطورية لكنها ربما تقدم إسقاط على واقع ، ليقع المشاهد في حالة من التشويش بين متعة المشاهدة ومحاولة فك رموز العمل ، وبين التشويق الفني في عرض الحدث والإطالة في بعض الأحيان .
عالم (عبد الرحيم كمال) مملوء بما هو غير معتاد ليجعل المشاهد في حالة فضول وتساؤل حول ما يقصده ، ففي جزيرة غمام ، جزيرة صعيدية تقع على بحر وليست على النيل لا أعرف كيف؟ ، سكان الجزيرة يعملون بالصيد وليس بالزراعة ، مكان يجمع الألفة و الغربة تضاد مقصود .
يقدم الكاتب عالم خاص بحبكة درامية في سيناريو واحد يذكرنا بقصة سيدنا يعقوب بحكاية (الشيخ مدين) ، و(عرفات) بحكاية ظلم سيدنا يوسف على يد أخواته، وربما إذا دققت أكثر في تصرفاته تجدها متابعة و تشبه لسيرة المسيح ، صورة إبليس في شخصية (خلدون) ، وربما (العايقة) تمثل غواية الدنيا .
تبدأ الحكاية مع أشعار ابن الفارض (أنتم فروضي ونفلي) ، من خلال وصية الشيخ مدين على فراش الموت لتلاميذه الذين قام بتربيتهم ، يهب عرفات الزاهد سبحته وكتاب به أسرار الناس بالجزيرة ، مطالبا إياه بتحذير القرية من خطر الزوبعة ، أعطى (محارب) مكانه في الجامع رغم أنه متسلط ، مؤمن بالشرع الجهادي ، و(يسري) حصل على البيت المتعلق بالأساطير في عباءة الدين ، ليظهر خلدون ( طرح البحر ) الشيطان الوسواس الخالد الذي لا يشيخ ، البلاء الذي يختبر به الله إيمان القرية ، ليقل الرزق و الأخلاق ، يأتي الاختبار الثاني لسلطة الجزيرة التي يمثلها عجمي بظهور جثة (سندس) التي ألقى بها البحر، وجودة (بطلان) التاجر وأطماعه الشخصية ،وولده قدري الذي يقع في غواية العايقة و تورطه في مقتل سندس ، و(در) ابنة (العجمي) المتعلقة بعرفات ، و(العايقة) الغجرية ضاربة الودع وتعرف الغيب زوجة (خلدون) ، بداخلها تريد معرفة أهلها و تحاول أن تتعلم من عرفات ، علاقة يحاول خلدون استغلالها لفرض سيطرته على الجزيرة بفضيحة عرفات ، لكن الأمل يكون في الأطفال الذين يعلمهم عرفات .
الكتابة هنا هى العامل الأساسي لنجاح العمل ، إلا انه يحتاج لفريق قوي لتكتمل عناصر النجاح ، الإخراج حسين المنباوي صياغة بصرية للحدوتة ، استخدام جيد للبحر و الطبيعة و البيوت في الصورة ، كأنها لوحة فنية بعدسة (إسلام عبد السميع) مدير التصوير ، بالتناسق مع الإضاءة والديكور والملابس .
(البحر ده كان جبل نزل عليه الحب/ والصخر لان وانحنى من عطفه على المجاريح/ يا ناس قلبكوا حجر ولا انتو من غير قلب/ وقت اما تعمى البصاير ، ما حيلتنا غير البصيرة)، كلمات الشاعر إبراهيم عبد الفتاح هى مفتاح يمهد الطريق للمشاهد للحكاية، والتي أعادت علي الحجار مرة أخرى لغناء تتر مسلسل ، ويأتي لحن شادي مؤنس ليكمل صياغة الحالة الدرامية .
طارق لطفي فنان في سباق مع نفسه ليبقى على قمة مدرسة الأداء السلس، تمكن من تقديم شخصية (خلدون) بالصوت والابتسامة ليبدو في ظاهره الطيبة والمحبة لكن باطنه شيطان يوسوس للناس بالمعاصي ، استخدم الصوت الهادئ وكلماته الموزونة بالقافية، مستخدما أسلوب المذلة بثبات انفعالي للشخصية ليصل إلى ما يريد ، ونظرات عينيه اللامعة معبرا بها عن نواياه الخفية ، أداء مرعب إلى الحد الذي جعل أغلب المشاهدين يتمنوا لو يستطيعون قتله بالخنق أو الرجم ليتخلصوا من الشر . طارق لطفي تفوق على نفسه ، بعدم تكرار نمط الأداء لشخصية الشرير .
فتحي عبد الوهاب قدم الشيخ المتسلط والذي يريد تطبيق الشرع الجهادي بنظرات حادة وأداء صوتي يوضح إصراره ، كما يظهر الحقد الذي بداخله لمن حوله في نظراته أكثر من كلامه ، وهو أيضا متفرد في أداء كل الشخصيات دون تكرار أو الوقوع في النمطية .
يقدم فتحي عبد الوهاب ثنائي رائع مع هبة عبد الغني ، لتقدم حسنة زوجة وأم بسيطة باقتدار ، يعتبرها بعض النقاد الحصان الأسود لضمان نجاح العمل .
المفاجأة الحقيقية في هذا العمل هى مي عز الدين ( العايقة ) التي تأسر الرجال بنظرة العين وبالجمال ، دور يختلف عما قدمته من قبل ، بل يعتبر دور يكشف موهبتها الفنية ، استخدمت لغة الجسد مع الصوت الهادئ لتظهر انفعالاتها طبيعية بلا مبالغة ، الملابس ساعدتها في تجسيد الشخصية ، تمكنت من التفاصيل الدقيقة للغجرية بسهولة .
محمد جمعة صاحب أداء صادق بشخصية الشيخ يسري في قدرة عجيبة على التجسيد الدرامي دون مبالغة بعيون معبرة للغاية.
وفاء عامر (الست لما تسلطن في الغنا) ، تعبير وتشبيه أقرب لما قدمته في هذا العمل ، أداء سلس وقوة في التمكن من الشخصية .
رياض الخولي ومحمود البزاوي وحوش تمثيل وملوك الإبداع في كوكب لوحدهم ومعهم القدير عبد العزيز مخيون ، حالة من الهيبة والحضور الطاغي لعمالقة ،عايدة فهمي ولبنى ونس أساتذة تمثيل.
أكثر المشاهد التي كنت انتظرها وتبهج قلبي الطفل (منذر) مع الفنان يحيى أحمد و الفنان ناصر شاهين ، كانوا رائعين في الأداء والحوار ، خاصة جملة الطفل ( أنا احلى حاجة في الدنيا ) ، ليؤكد على مبدأ الاعتزاز بالنفس بدلا من أن يفتن على من علمه هذا .
تم توظيف المواهب الشابة جيدا مثل (ميار الغيطي وإسلام حافظ وأحمد النجار ومونيكا ألفونس و هاجر الشرنوبي .
أحمد أمين اختيار موفق لدور عرفات ، فهو أيضا مبهر في أداء الشيخ الزاهد دون أن يكون مريضا نفسيا ، بل يدمع قلبه قبل عينه مما يجعل المشاهد يتعاطف معه رغم مظهره الرث ، كنت أتمنى أن يكون المظهر أفضل لأنه غني بحب الله .. الله وليس المال ، لكنها وجهة نظر القائمين على العمل ، إلا أنه كما يقول لاعبي الألعاب الإلكترونية (عدى مرحلة الوحش) ليثبت أنه موهبة جبارة بقدرات عالية.
في النهاية: هذا مجرد رأي كشاهد وليس ناقد في عمل فني يقدم فكر و يحاول فهم العلاقة بين الروح والمكان وصراعات البشر باتجاهاتهم المختلفة ، ويطرح العديد من الأسئلة خاصة البداية التاريخية التي بدأ بها الكاتب بزيارة الرئيس والاستماع للحكاية ، ربما أكون قد تسرعت في رأي قبل مشاهدة كاملة للمسلسل، على الرغم من معرفتي جيدا بأسلوب الكاتب عبد الرحيم، كمال إنه ربما سيفاجئنا بنهاية غير متوقعة تربط كل ما سبق، لكننا أمام عمل إبداعي رائع جدا في كل عناصره .
عمل يصوغ العلاقة بين الروح والمكان والفضاء الإنساني الأعم، أمام صراعات بشرية ملونة بطبائع واتجاهات مختلفة، وموزعة بين الإنساني والفلسفي والصوفية. صراعات تنشب باسم الدين وفي خلفيتها جموح يتطلع صوب السلطة في الجزيرة، والجزيرة تجسد البلد كله في دراما محكمة الصنع، تفرض علينا جميعًا أسئلة المصير والمستقبل، إنها ذاتها الأسئلة التي لم يستطع أحد فينا، أن يفلت من مطارتها في السنوات الأخيرة.