بقلم : محمود حسونة
يبدو أن الرياح غالباً ما تأتي بما لا تشتهي السفن، وأن كل جديد في العالم الرقمي قد يحمل إلينا تيارات فكرية لا نشتهيها ولا تتوافق مع بقايا القيم والمبادئ التي اكتسبناها منذ سنوات طويلة مضت من السابقين علينا، ونعجز اليوم عن زرعها في اللاحقين لنا، ويهرول قادماً إلينا زمن لن يكون للبيت تأثير في العملية التربوية، وستؤثر في أولادنا وتتحكم في أحفادنا التيارات السلوكية الوافدة والتي ستقضي على ما تبقى من موروث محمود، بعد أن أصبح أباطرة التكنولوجيا، وللعلم فهم أنفسهم أباطرة الاقتصاد وصانعي السياسة، يتحكمون في تربية وتعليم الأجيال الجديدة والقادمة، كما أنهم هم الذين يشكلون الوجدان الإنساني ويريدونه واحداً لا يعرف التنوع والاختلاف الذي عاشته الإنسانية من قبل.
نعم سيقاوم البعض هذه التيارات الجديدة، ولكنه البعض الذي سيتآكل بمرور الزمن حتى يتلاشى وتصبح القيم والمبادئ من العدم، ويتم صبغ السلوك البشري بلون واحد، بعد أن يتم حذف العيب والأخلاق والقيم والمبادئ وليخلو من منظومة الحلال والحرام التي حملتها الديانات السماوية، وآمن بها الإنسان، ولكن يبدو أن الوقت قد حان لخلط العاطل بالباطل.
في هذا المكان كتبت قبل أكثر من عام متفائلاً بتأثير المنصات الاليكترونية للعرض التليفزيوني والسينمائي على صناعة الدراما والسينما، من منطلق أنها تستلزم كثافة إنتاجية وهو ما سينعكس بتحفيز المبدعين وخلق حالة من التنافس بين الفنانين ليصب الجميع عند المشاهد فتتعدد أمامه خيارات المشاهدة، ولكن ما يحدث يخالف ذلك ويحول التفاؤل تشاؤماً، ويؤكد أننا كثيراً ما نحلم ولكن سرعان ما تصبح هذه الأحلام أوهام أو كوابيس، فنحن نريد ونحلم وليس بيدنا قرار، وهم يريدون ويقررون وينفذون ويحولون كل أفكارهم ومخططاتهم إلى واقع.
منصة نتفليكس، والتي تعد الأولى عالمياً للعرض التليفزيوني والسينمائي، لا تجد عملاً من إنتاجها إلا ويتضمن مساحة للشذوذ الجنسي، وليتهم يقدمونه على أنه سلوك مختلَف عليه، بل يقدمونه على أنه سلوك طبيعي، وطريق يسير فيه الأسوياء. والأمر لا يقتصر على ما تنتجه نتفليكس فقط ولكن ينطبق أيضاً على ما تعرضه حيث تحرص على شراء الانتاجات التي تروج للشذوذ وتجمّل صورة من ينتهجون هذا النهج المحرم سماوياً والمقزز سلوكياً، ولأنه منبوذ إنسانياً فإنهم يشهرون في وجه الإنسانية جميع أسلحتهم من مال وتكنولوجيا وإعلام وتواصل وسينما ودراما لتحويله إلى سلوك مقبول، وهو ما يتزامن مع مطالبات منظمات عالمية ودول فاعلة على الكوكب باعتبار الاعتراف به حق من حقوق الإنسان، بعد أن حولوا مصطلح (حقوق الإنسان) إلى مصطلح يستخدمونه لكل باطل يريدون تكريسه عالمياً، فالشذوذ حق، وعندما يريدون خلخلة دولة أو اسقاط نظام أو تشريد شعب يستخدمون سلاح (انتهاك حقوق الإنسان) لتهييج العالم وتنفيذ إرادتهم الخبيثة.
هم خبثاء، ونحن نعي ذلك منذ قديم الزمان، لا يريدون لنا استقراراً ولا تقدماً، ولديهم أجندة يريدون فرضها على العالم كله، لكننا أيضاً نعي أننا كنا وسنظل هدف لهم، وهم كانوا وسيظلون (مثل وقدوة) لكثيرنا، لا نرفض أن نتأثر بهم مثلما أثّر أجدادنا فيهم، ولكننا نرفض أن نقلدهم في النافع والضار وأن نتنازل عن موروثنا وقيمنا وعاداتنا لنكون صورة مشوهة عنهم، نعتنق شذوذهم ونعيش نمط حياتهم الذي يستبيح كل شيء ولا يعرف في العلاقات حدوداً ولا في الحلال والحرام حاجزاً.
منصة شاهد السعودية تعرض حالياً مسلسل غريب عجيب، تافه ضحل، شخصياته لا تشبهنا ولا تنتمي لعالمنا، غرباء عنا في الكلام وفي السلوك وأحياناً في الملابس، اسمه ( قواعد الطلاق الـ 45)، وهو مأخوذ عن مسلسل أمريكي باسم (دليل الصديقات للطلاق) واسمه العربي مستوحى من اسم رواية الكاتبة التركية أليف شافاك (قواعد العشق الأربعون)، ولكنه لا يمت لها بصلة على مستوى المضمون، فالرواية تتحدث عن قواعد العشق الصوفي التي وضعها شمس الدين التبريزي وغيّرت حياة شاعر الصوفية الكبير جلال الدين الرومي، أما المسلسل فيضع للطلاق قواعد، تحوله من أبغض الحلال إلى هدف لبعضهن الباحثات عن (حياة خالية من عقد الزواج وأزماته المتلاحقة)، ويجمل العلاقات غير المشروعة والتي ينبذها المجتمع، ويحولها إلى علاقات مقبولة من مختلف الأجيال بما في ذلك النشء وكبار السن.
المسلسل تدور أحداثه حول فريدة وعمر (إنجي المقدم وعمر الشناوي)، زوجان يعانيان من الخلافات بينهما كل الوقت وهو ما يدفع الزوج، والذي يعمل مخرجاً ويسعى لفرصة يحقق من خلالها ذاته، إلى الارتباط عاطفياً بممثلة، ورغم ذلك فإن فريدة ككاتبة تبشر دائماً بالسعادة الزوجية التي تنعم بها، ويتفق الزوجان على الطلاق ولكنهما يؤجلان الإعلان حتى يكون ذلك متوافقاً مع كتابات فريدة، ويتم تسريب الخبر وتنقلب الدنيا على رأس فريدة كزوجة وككاتبة وكأم.
على هامش هذه العلاقة، تأتي علاقة فريدة بصديقاتها الفاشلات أيضاً في الزواج، وكل امرأة في المسلسل تخرج من علاقة لتدخل في غيرها كما لو كانت تخرج من غرفة داخل بيتها لتدخل غرفة أخرى، وهو ما ينطبق أيضاً على الرجال، ويصل التجاوز الدرامي حد أن كل واحدة تعيش في حيرة بشأن أكثر من علاقة، ويصل الأمر إلى ذروته من خلال داليا والتي تجسدها (هايدي كرم) عندما تدخل في علاقة مع رئيسها في العمل والتي تعمل معه منذ سنوات ولا يحلو في عينيها إلا وهى تستعد لزفافها على آخر كل هدفه إرضائها وإسعادها، وبكل وقاحة تبلغ صديقاتها عندما تطلبن منها ترك خطيبها، تبلغهم أنها تحتاج الرجلين، فمديرها هو الحاضر وخطيبها يمثل المستقبل!!!.
والغريب أن فريدة الأربعينية، تلقى التشجيع من والديها على علاقة غير مشروعة مع كاتب وطبيب أمراض نساء، وداليا الأربعينية أيضاً لا يعرفها والدها إلا عند حاجته للفلوس حيث يذهب إليها متسولاً وراجياً حتى تدفع له ما يريد، وإذا احتاجته في شيء فهو خارج الخدمة.
علاقات كلها مشوهة وغير سوية ولا يحكمها سوى قانون العبث، وكل شخصيات المسلسل مريضة اجتماعياً ولا يوجد بينها نموذج واحد مضيئ أو يشبهنا من قريب أو بعيد، وكأن من كتبن هذا المسلسل ومن أخرجه، ومن شارك فيه بالتمثيل، ومن أنتجه ومن عرضه، تجمع بينهم الرغبة في نشر هذا العبث والترويج للعلاقات غير المشروعة، ومن لا يدرك ذلك منهم فإنه بلا شك غير مستوعب لعواقب ما يفعل.
وبجانب كل ذلك فإن بعض بطلات وأبطال هذا المسلسل لديهم ثقل دم ولن يجني من يشاهد عبثهم سوى التوتر والندم.
mahmoudhassouna2020@gmail.com