بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
نعود مرة أخرى إلى عجزنا في إنتاج الفكرة، وفشلنا في إنتاج المعرفة، نعود إلى الحديث عن السرقة والاقتباس، وإذا كنا نعتبر المؤلفين والمخرجين هم نخبة هذه البلد أو على الأقل من نخبتنا، فإنني أقول لكم (خيبتنا في نخبتنا)، فالبادي لنا في هذه الأيام أن الأمر لا يتعلق بالاقتباس أي أخذ الفكرة ووضعها في سياق آخر، ولكننا نسرق أعمالا فنية لآخرين، بالمشهد، بالحوار، ببوسترات الدعاية، ثم نقول إن هذا العمل من تأليف الكاتب فلان الفلاني، وإخراج المخرج علان العلاني، والحقيقة أن المؤلف لم يؤلف، والمخرج لم يُخرج، ولو انتبه المؤلفون الأصليون الذين يعيشون في بلاد الفرنجة لرفعوا على المؤلفين المصريين قضايا سرقة ملكية فكرية، ولكن من أمن العقاب أساء السرقة.
نعم من الممكن أن يكون المؤلف كبيرا ويقتبس، ولكن المؤلف الحقيقي لا يسرق، ولنا في الكاتب الكبير يوسف السباعي المثل، فهو مؤلف كبير، وقد كان كبيرا أيضا في الاقتباس، فقصة فيلمه (الليلة الأخيرة) بطولة فاتن حمامة ومحمود مرسي وأحمد مظهر، إخراج كمال الشيخ، اقتبسها السباعي بإتقان من رواية (السيدة المجهولة) للكاتبة مرجريت واين، وشارك في كتابة السيناريو والحوار معه السيناريست صبري عزت الذي كان في مقتبل حياته التأليفية، والحقيقة أنا لا أفهم إلى الآن كيف أن عملا واحدا يشترك فيه أكثر من كاتب!!، هذا مثل أن يشترك مؤلفان لكل منهما شخصيته في كتابة رواية واحدة! .. هذا والله شيء عجيب.
ما علينا، المهم أنني أشهد أن الاقتباس كان متقنا، وتنفيذ المخرج لهذا العمل كان جيدا، فقد جعلنا نعيش في العمل بكل تركيز، استطاع أن يجذب مشاعرنا، ويجعلنا ننفعل مع البطلة، وقد كان لأداء الممثلين دورا كبيرا في نجاح الفيلم، كما أننا عشنا في حيرة في جزء كبير من الفيلم، هل البطلة هى نادية أم أنها فوزية؟، ودخول الطب النفسي في الفيلم كان متميزا بأداء النجم الكبير أحمد مظهر والفنان الكبير عبد الخالق صالح، وإن كنا قد عرفنا من حوار قديم للسيدة فاتن حمامة رحمها الله أنها كانت معترضة على نهاية الفيلم (نحن طبعا لا نعرف ما هى النهاية في سيناريو السباعي وعزت)، فلجأت إلى المخرج الأمريكي الكبير (ديفيد لين) الذي أخرج فيلم لورنس العرب، ذلك الفيلم الذي شارك في بطولته عمر الشريف وأصبح بعدها نجما عالميا انضم إلى قافلة الإتقان والدقة التي رفعت من شأن بلاد الفرنجة على بلاد العرب، وقتها وجد المخرج الأمريكي أن نهاية الفيلم التي وضعها كاتبنا المقتبس، وسيناريستنا المشترك في السيناريو (صبري عزت) غير منطقية وغريبة، فما كان منه بناء على طلب السيدة فاتن حمامة إلا أن قام بإجراء تعديلات على سيناريو يوسف السباعي ليخرج الفيلم في النهاية بالصورة الجيدة التي شاهدناها.
هذا عن الإتقان في الاقتباس، ولكن هل نجا يوسف السباعي من داء السرقة ؟!، إذن فلنسمع هذه القصة: شاعت فضيحة في الخمسينات عندما وجه الناقد الراحل أنور المعداوي اتهاما ليوسف السباعي بأنه قام بسرقة رواية أبيه محمد عبد الوهاب السباعي (السقا مات)، والتي كانت مكتوبة بخط يد هذا الأب وموجودة في بيته ثم مات قبل أن ينشرها، وقد كان ابنه يوسف وقت وفاة أبيه في الخامسة عشر من عمره، وظل الابن يوسف محتفظا بمخطوطة أبيه الأديب نصف المشهور في زمنه، إلى أن قام في آواخر الأربعينيات بنشرها على أنه هو الذي قام بتأليفها، ويبدو أن الابن يوسف اعتبر نفسه امتدادا لأبيه، أو أنه كان يؤمن بالمثل المصري القائل (اللي خلف مامتش).
ويا ويل الكاتب أنور المعداوي عندما فضح يوسف السباعي على رؤوس الأشهاد، وكشف حقيقة هذه السرقة، حتى أن عميد الأدب العربي طه حسين كتب ليوسف السباعي وقتها قائلا: لقد كان والدك يكتب أفضل منك، وقد تكون شهرة الابن يوسف غطت على الأب الأديب فلم يصل إلينا معظم ما كتبه، وإن كانت أحداث هذه الرواية تدور في فترة العشرينيات وهى الفترة التي كان يعيش فيها الأب محمد السباعي ويكتب عما يحدث في زمنه، وهذا الأمر بطبيعة الحال يشككنا في بعض روايات وقصص الابن يوسف، خاصة وأن خبراء أساليب اللغة يعرفون أن لكل كاتب بصمة في الكتابة، وأنه من الممكن معرفة صاحب النص من خلال مقارنته بأسلوبه، والخبير الأريب يعرف أن روايات وقصص يوسف السباعي لها أكثر من أسلوب!!، وهذا الأمر يحتاج إلى تحقيق دقيق وقد يمهلني العمر أن أحققه.
ولمن أراد أن يعرف تفاصيل المصائب التي حلَّت على المعداوي فليقرأ شهادة الكاتب الكبير الراحل محمود السعدني رحمه الله، إذ كان قد تدخل للصلح بينهما ولكنه فشل في ذلك فنال المعداوي من الويل والثبور وعظائم الأمور ما يعجز البيان عن بيانه إلى أن مات مقهورا يدعو على من ظلمه.
المهم أن هذه الرواية والتي تختلف في أسلوبها عن روايات السباعي الأدبية أصبحت فيلما عام 1977 قام بإخراجه المخرج الكبير صلاح أبو سيف، وقام ببطولته عزت العلايلي وفريد شوقي وشويكار، واختار النقاد هذا الفيلم باعتباره من أفضل مائة فيلم مصري، فنال السباعي المجد، ولايهم إذا كان الذي نال المجد هو الأب أو الابن، فالذي ناله (سباعي) والابن ظلٌ لأبيه كما يقول المثل، و(زيتنا في دقيقنا) كما نقول في قريتنا.
والآن ما رأيكم أن أقترح عليكم قصة فيلم، ولي رجاء عند كتاب السيناريو أن يتبنوا هذه القصة ويحولونها إلى فيلم سينمائي؟، أثق في ذائقتكم وأعرف أنكم ستعجبون بالفكرة، أما الفكرة فتدور حول صحفي شريف، أو ضابط شرطة أو موظف بسيط، أو مواطن مصري شريف مهما كانت وظيفته، ولكنه صغير المقام، ليس له نفوذ ولا سلطة، وقد تكون سلطته تافهة لا قيمة لها، وفجأة يعرف أن هناك رجلا من كبار رجال السلطة، أو من كبار رجال الأعمال، أو من كبار أعضاء البرلمان – أيا كان هذا الكبير – المهم أنه كبير، يعرف هذا المواطن الشريف أن هذا الرجل الكبير يمارس الفساد على نطاق واسع، فيقرر الشريف أن يواجه الفاسد مهما كانت التبعات، وأرى أن نجعل للرومانسية دور في الفيلم، فلذلك تنشأ قصة حب بين المواطن الشريف وبين أخت الفاسد أو ابنته أو عشيقته، أو زوجته، وينتهي الفيلم بإحدى النهايتين، إما أن ينتصر الشرير الفاسد ويتم قتل الشريف أو حبسه، أو ينتصر الشريف ويتم قتل الفاسد أو حبسه، وقد أقترح على المخرج نهاية ثالثة مفتوحة لا نعرف فيها من الذي أنتصر، ما رأيكم؟ قصة رائعة، أليس كذلك؟.
ولكنني سأسمعكم وأنتم تقولون إن هذه القصة قديمة جدا، وسيقول أحدكم بعاميته الجميلة (يا فندي دي قصة مهروسة، طلعت في أفلام أمريكية وفرنسية وهندية ومصرية قديمة وحديثة، هى قصة مكررة بصور مختلفة، لكن السياق واحد، نعم أنا معكم إنها قصة مهروسة ومستهلكة جدا، ولكن عندما اقتبسها الراحل وحيد حامد وصنع منها قصة فيلم (الغول) عام 1982 لعادل إمام وفريد شوقي ونيللي فرحنا به جدا، وقلنا واووووو، ما شاء الله ما هذا الإبداع؟!.. رائع يا مؤلف يا كبير، لقد أنهيت الفيلم بالبطل وهو يقتل الفاسد لأن القانون كان عاجزا، واووووو ما هذه الجرأة، إنك معارض جريء، تعارض نظام السادات وأنت آمن على نفسك في زمن مبارك!، ههههههه، ولم نقف عند حد الإعجاب فحسب، ولكن النقاد الكبار صفقوا له وأعطوه نوط الامتياز، نوط الامتياز على فيلم أصبحت قصته متهالكة من كثرة عرضها بصورها المختلفة، فقد كانت هى موضوع عشرات من الأفلام الهندية القديمة.
وبالنسبة للأفلام المصرية ستجد نفس القصة بشكل متعلق بالجريمة والعصابات في فيلم (النمر) الكوميدي بطولة أنور وجدي ونعيمة عاكف سنة 1952، وفيلم المشاعر والأحاسيس والظلم والجريمة (توبة) لعماد حمدي وصباح ومحمود المليجي عام 1958، فإذا أحببنا أن نجعل للفيلم شكلا سياسيا مرتبطا بحدث ما فلا مانع من أن يكون الفاسد هو أحد رجال السرايا قبل ثورة 1952، وتكون سعاد حسني هى ابنة هذا الفاسد، ويدخل في الموضوع رشدي أباظة وإبراهيم خان وصلاح ذو الفقار فنكون بذلك أمام فيلم (غروب وشروق) الذي تم إنتاجه عام 1970، وقد نغيِّر من المعالجة ولكننا نجعلها سياسية أيضا، فنقلب القماشة على الناحية الأخرى ونجعل السياسي الحكومي الفاسد في زمن عبد الناصر هو السيد عادل أدهم، وبذلك نحتفل بذكرى ثورة التصحيح عام 1971 فيرضى النظام عنا.
وبدلا من أن يطارده المواطن الشريف محمود عبد العزيز، فليطارده هو، فقد كان هذا المواطن الشريف يريد أن يحصل على البراءة من تهمة قتل هو بريء منها، ولكنه للأسف كان المواطن الشريف يقضي لذته ونزوته غير الشريفة مع زوجة سرية للسياسي الكبير الفاسد وقت تلك الجريمة، فيكون مفتاح البراءة معها لو شهدت له في المحكمة، فنكون أمام الفنانة شويكار، ويكون الكاتب هو وحيد حامد في فيلمه (الدنيا على جناح يمامة) عام 1989 ويكون وحيد حامد قد فرغ جراب أفكاره أو اقتباساته فيقلب قماشة فيلمه (الغول) على الناحية الأخرى، وفي الفيلمين الغول والدنيا على جناح يمامة كانت المعالجة القانونية فاشلة بامتياز، أو قل إن الكاتب في الفيلمين كان يجهل أبسط مبادئ التقاضي أمام المحاكم والنيابات التي يعرفها رجل الشارع العادي.
ولنا عودة بخصوص وحيد حامد حتى تكتمل الصورة.القائمة قد تطول