كتب : محمد حبوشة
يعيش اللبناني حالة من التشويق والإثارة منذ سنوات، فالأحداث الدرامية الدامية في بلد الأرز لا تنتهي، وتتوزع على كل المجالات السياسة والاقتصادية والاجتماعية وحتى اليومية، ولا يمر شهر من دون حدث تلفزيوني بارز، أو عراك مباشر، أو تعليق ناري من أحدهم، فتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي، وبما أن اللبناني معروف بـ (قطفه) للحظات الهامة في حياتنا، ثمة توجه حالي إلى نقل هذه الاثارة والتشويق الى الدراما التي تعرض على الشاشة الصغيرة، ومن ثم يعيش سوق الإنتاج الفني (السوري – اللبناني) انتعاشة لم نشهد لها مثيلا من قبل، حيث عرض منذ بداية نوفمبر الماضي فقط، ثمانية أعمال درامية مشتركة، وهو أكبر عدد من المسلسلات يتم عرضه خلال شهر واحد خارج الموسم الرمضاني، هذه الغزارة الكمية التي قد توحي بأن الدراما تزدهر مجددا، لا تعكس حقيقة ما يجري؛ فغالبية المسلسلات تترواح في مستوى جودتها مابين الجيد والمتوسط والردئ.
لكن في مسلسل (8 أيام)؛ والذي جاء رائعا – من وجهة نظري الشخصية – على مستوى التكنيك والاحترافية في الأداء لكل من (مكسيم خليل، بديع أبو شقرا، سنتييا خليفة)، قدم المخرج التونسي، مجدي السميري 8 حلقات من كتابته وإخراجه، في إطار دراما المنصات التي تعتمد على الجريمة (شاهد) كنوع من الالتزام بأسلوب وحلقات المسلسلات القصيرة، والتي تغزو المنصات الإلكترونية العربية، وتعزز استغلال شركات الإنتاج لعامل التشويق الذي يلزم المشاهد بالمتابعة، وهو ماجاء في ثنايا سيناريو (8 أيام) حول حكاية الاتجار بالفتيات القاصرات، وهى صيغة متشابهة مع القضايا الاجتماعية التي طرحت في أعمال درامية سابقة، كـ (العميد) بقضية الاتجار بالأطفال، و(البريئة) بالاتجار بالآثار، و(لا حكم عليه) بمسألة الاتجار وبيع الأعضاء، إلى آخر السبحة التي تشكل اليوم منفذا أساسيا لأفكار المنتجين العرب.
محاولة بدت جيدة لشركة (فالكون فيلمز) لصاحبها رائد سنان، لدخول عالم الإنتاج مرة أخرى في مسلسل قصير، والواضح أن الشركة منحت المخرج التونسي مجدي السميري كافة التسهيلات للخروج بمسلسل أشبه بالأفلام الأميركية التي تغزو السينما العالمية منذ عقود، لم يوفر السميري استغلال أو تقليد صناعة أفلام الأكشن، ومكان الحدث هو بيروت، إذ يقع المحامي (أمير/ مكسيم خليل) في قبضة الشرطة متهما بجريمة قتل لقواد يسوق الفتيات القاصرات، وذلك للعمل في الدعارة خارج لبنان، ولقد أدى خليل دوره على أكمل وجه وأكثر إقناعا بصفته علامة بارزة في الدراما السورية والعربية الحديثة.
تبدو مشاهد (8 أيام) علي طريقة (هوليود) بامتياز من الدقائق الأولى للعرض، مركز الشرطة هو قاعدة أساسية لفك لغز المحامي والعصابة التي تحيط به، وخصوصا سبب توريطه في هذه الجريمة، لا سيما أن المحامي (أمير) يعمل شريكا في ملفات فساد، لكنه يرفض رفضا قاطعا الإتجار بالفتيات القاصرات، ومن ثم كان عليه أن يدفع الثمن بحسب خطة المافيا، شخوص تشبه إلى حد كبير ما شاهدناه من قبل في مراكز الشرطة الأميركية، حيث اعتمد (السميري) فيها للمرة الأولى على إبراز وجوه تحمل ملامح غربية في الشكل كنوع من (انصهار) مستجد يقدمه للمشاهد العربي خاصة لفئات الشباب.
داخل مركز الشرطة وغرف التحقيق، لوحات التعريف كتبت باللغة الإنكليزية وليس العربية، حتى في تتر المسلسل أسماء فريق العمل كلها بالإنكليزية!، ومع ذلك تتحد خطوط اللعبة في (8 أيام)، والتي من المفترض أن ترسم طريق حل (لغز الجريمة) بعدا افتراضيا لا يمكن أن يتشابه مع الواقع الأمني في لبنان ولا في معظم الدول العربية، فضلا عن استغلال تقنيات الإنترنت في مساعدة المتهم على كشف ملابسات الاتهام، والسعي وراء براءته عن طريق صديق له يعمل في مجال الأمن الرقمي، والملاحظ أن إنتاج شركة (فالكون فيلمز) المتخصصة بصناعة السينما، اتخذت منهجا جديدا في إنتاجها، وهى التي لم يسبق لها أن خاضت تجربة صناعة الدراما التلفزيونية سوى بعمل واحد سابق، وهو (داون تاون) العام الماضي.
تبدأ الحكاية بمشهد غريب، يظهر فيه (أمير/ مكسيم خليل) نائما وبيده مسدس أمام جثة، ويحاول (أمير) الذي يعمل محاميا والذي لطالما استخدم مهاراته لإنقاذ المجرمين والقتلة إنقاذ نفسه، تتكفل بهذه القضية شرطية تدعى (ياسمين/ سنتيا خليفة) التي ستصدق رواية (أمير) وتشك برئيسها في العمل (كريم/ بديع أبو شقرا) بأنه متورط بذات القضية؛ قد برع (أبو شقرا) هنا في استخدام منهجه التمثيلي القائم التركيز على الانفعالات الداخلية للشخصية، خاصة بعد أن تكتشف بأنه على علاقة بزوجة (أمير) التي تلعب دورها (إليسا زغيب) ببرودة أعصابها المعهودة، وتبدأ معه ومع ياسمين رحلة البحث عن القاتل بعد أن يهرب (أمير) من السجن مصادفة! .. هكذا تتشابك الخطوط لينقسم أبطال العمل في فريقين بسبب اكتشافات مفاجئة تتم كلها عن طريق المصادفة.
ومن الأمثلة على نوع المصادفات السلبية المثيرة للسخرية – نوعا ما – في المسلسل هى السيارات الجاهزة في كل مكان، التي يقوم (أمير) باستعارتها أو سرقتها للهرب أو التجول في المدينة، في سياق لا يشبه سوى لعبة الفيديو (جي تي أيه)، ليكون (أمير) دائماً يملك إمكانيات تخلق من العدم، تساعده في رحلة بحثه الملتوية عن الحقيقة، فالمصادفة لا تخدم (أمير) وحده، وإنما هي العنصر المشترك الذي يحرك كل حكايات العمل ويرسم خطوط الشخصيات؛ فالقاتل يتمكن من الإيقاع بضحاياه لأنه عثر عن طريق المصادفة على فرصة عمل كسائق لدى رئيس العصابة، والعلاقة الغرامية الموجودة بالمصادفة بين الضابط الفاسد وزوجة المحامي المعني بالقضية هى التي تلوي عنق رحلة البحث لعدة حلقات، قبل أن نكتشف أن كل السيناريوهات الساذجة المتوقعة هى أفضل من الحل السحري الذي يهبط من السماء فجأة بالحلقة الأخيرة.
وإذا ما حاولنا أن نبحث في المسلسل عن بعض النقاط الإيجابية، فإنها ستتلخص ببعض اللمحات الفنية المكملة، كالأداء الاحترافي بالغ الدقة والاحترافية من جانب (مكسيم خليل، بديع أبو شقرا، سنتيا خليفة)، والموسيقى والإيقاع السريع والمتقن بمشاهد الأكشن وبأداء بعض الشخصيات المساندة، مثل (ياسر البحر)، الذي لعب ببراعة دور رئيس العصابة بأول مشاركاته في الدراما العربية المشتركة، لكنها ليست كفيلة برفع مستوى العمل، الذي يبدو خيارا غريبا آخر للممثل مكسيم خليل، الذي تخبط بالمشاركة بأعمال درامية متواضعة في الأداء إلى حد ما، بعدما قدم شخصية (غسان) في في مسلسل (أولاد آدم) ليضع نجوميته في السنتين الأخيرتين على المحك.
تشابك أحداث مسلسل (8 أيام) المعروض بحلقاته الثماني على (شاهد) يضيف متعة إلى متابعته، فالعمل مشغول على قاعدة (حبس الأنفاس) منذ الجريمة الغامضة وتورط المحامي (أمير) إلى تساقط الأقنعة لتنكشف فضائح تعري أسماء كبيرة في أجهزة الأمن وشبكات المافيا، وتبدو لي الحبكة المتقنة ومفاجأة الحلقة الأخيرة، ورقتا المسلسل الرابحتان، هو الفارض تصنيفه خارج كليشيه بعض الدراما البوليسية العاجزة عن تسديد الضربة القاضية، كما كتبها وأخرجها (التونسي) مجدي السميري، فهو لا يجهد في الوعظ بالصح والخطأ وإلقاء الخطب الأخلاقية، بل يضع في الواجهة بطلا بصفة محام، ويلعبه مع الشياطين، فيتبين أنه واحد منهم.
وقد ظل مكسيم خليل (يخادع) بملامحه (البريئة) حد التعاطف معه كضحية، فدار دولاب الأيام، ورد له ما اقترفته يداه، بقاء النهاية مفتوحة يؤكد الحقيقة المرة: العدالة منقوصة على الأرض، فمن خلال ثماني حلقات تبدأ بجريمة وتنتهي بجرائم يبدو مكسيم خليل أكثر من (محامي الشيطان) المحتفل معهم بصفقات الشر، رجل بوجوه زائفة، يملك وجها صادقا واحدا هو الأبوة، ومع ذلك هى أبوة متناقضة، طافحة بالشيء وضده، فهو برغم تعلقه بابنته المراهقة وخوفه على مشاعرها، يزج نفسه في قضايا الدفاع عن مشغلي قاصرات بالدعارة، ويخرج الوحوش ببراءة من التهم المثبتة.
أثبت مسلسل (8 أيام) أننا نشتاق إلى (سنتيا خليفة) في الدراما اللبنانية أو اللبنانية السورية المشتركة، بعدما أبعدتها مسلسلات مصر ونجاحاتها، وتشكل مع مكسيم خليل – بعد 13 عاما من اللقاء مجددا – مغامرة غريبة الأطوار تظن لوهلة أن الحب قد يشتعل بين متهم بجريمة قتل وضابطة تحقيق في الشرطة، تصدقه وتساعده، ثم يظهر أمامها الذئب الذي يسكنه، هى الهاربة من ماضيها الأليم، حيث الأب (صورة الرجل في رأسها) معنف وقاس، شطبت وجوده بطعنة سكين في حوض الاستحمام، لكنها تحسن إخفاء الألم خلف ندوب متكتلة على جسدها، تجرها معها منذ الطفولة.
هذه القوة في شخصية الشرطية (ياسمين/ سنتيا خليفة) المغلفة بحاجة ملحة لابتلاع الحبوب المهدئة، سرعان ما بدت مشرعة على الاختراق، كانت عرضة لجراحات حب في غير أوانه وجسور طمأنينة مقطوعة سلفا، خليفة تجسيد هنا المرأة الصلبة والحزينة، العاشقة والنادمة في براعة وإتقان عبر دور الشرطية في التخلي عن مبالغات الجمال – متخلية تماما عن المكياج الصارخ – وفي امتهان استعمال السلاح وعمليات الدهم، وأيضا في نداء الواجب حين تخيرها الحياة بين أوهامها العاطفية المتساقطة وضميرها، ويذكر المسلسل بما لا ينبغي إغفاله: عالم الفساد وخطورة أزلامه؛ من هم في الواجهة ومن هم (رأس الحية) في السر، من خلال الضابط (كريم/ بديع أبو شقرا)، توضع الإصبع على الجرح الأشد التهابا: الرؤوس المتورطة في الدولة.
وبرغم أن العمل يتعمد إخراج ثنائية الزمان والمكان من معادلته، مكتفيا بالإشارة إلى الأيام الثمانية من حياة المحامي (أمير)، فإنه يفتح نقاشا حول الأيدي الملوثة في المجاري الحيوية، ويكشف المستور خلف البزات الرسمية ودوامات العمل والتقارير المزورة والتخفي وراء (البيزنس) المشبوه، ولعل تسليم الضربة القاضية لممثل بحجم (باسم ياخور) الذي يظهر في الحلقة الأخيرة ليقلب التوقعات، نقطة إضافية يكسبها المسلسل، حيث تتحول القصة من شبكة مافيا تتاجر بالبشر وترمي قاصرات بين أنياب مهووسين جنسياً، إلى مسألة رد اعتبار شخصي على علاقة بإحقاق العدالة والاقتصاص من المجرمين، بالجملة.
ظني أن العمل رفع فيه الممثلون على اختلاف أطيافهم من شأن العمل، بانفعالاتهم الطبيعية، وكلامهم البسيط، وعدم التصنع أو المبالغة في تأدية الأدوار، عندما سار في منحى تصاعدي على رغم مشاكل في الموسيقى القوية، والمنفرة أحيانا للمشاهد، فالتشويق لا يعني ازعاج المشاهد، والبطء في الكلام أو الانتقال من مشهد الى آخر لا يكون مثيرا عادة، ومن المشاكل التي يعانيها العمل، الاصرار على التصوير في أماكنة مخيف أو لنقل.. غير معتادة.
ومع ذلك فمما لا شك ان هذا النوع من المسلسلات، قادر على جذب المشاهد، خصوصاً مع كثرة الأعمال الرومانسية التي تدور حول قضايا الحب، وبعدما ملّ المشاهد من الحكايات التركية والمكسيكية والهندية حديثا، لكن يبقى على صناع هذه النوعية من الدراما أن يتنبهوا الى أن تكثيف الأحداث وغزارتها، أنجح هذا النوع من الأعمال في الغرب، لا البطء في تقديم المعلومة، في حين أن الاعتماد على رشاقة الكاميرا وحركتها وأداء الممثلين، كانوا عوامل أساس في إنجاح العمل وجعله أكثر احترافية في صناعة دراما الإثارة والتشويق.