(أدركوا إذاعة القرآن الكريم)
بقلم : محمد شمروخ
ما تمنيت أن أكتب هذا المقال يوما ما، فبالرغم من أننى لم ألتق بأى من المذيعين في إذاعة القرآن الكريم المصرية، إلا عرضا وبعدد قليل منهم، غير أننى ارتبطت وجدانيا بأصواتهم جميعا على مدى مراحل عمرى منذ الطفولة وحتى الآن وقد نيفت عن الخمسين، لهذا أكتب هذا المقال من منطلق غيرتى على هذه المحطة التى تحتل المركز الأول في الأسماع وفي القلوب وكم أحزننى عودة الإعلانات بأصوات وأساليب لا تتفق مع قدسية رسالتها التى حملتها منذ تأسيسها (في ذي القعدة 1383هـ الموافق مارس 1964م) وحتى الآن.
لقد حافظت هذه الإذاعة على شخصيتها التى استمدتها من اسمها ولا يمكن أن يكون هناك تشريف وتعظيم أكثر من هذا الاسم.
تراثها الكبير المتنوع ممن ارتبط بهم وجداننا من قراء عظماء تجويدا وترتيلا، وعلماء أجلاء في شتى العلوم الإسلامية من فقه وتفسير وتاريخ وشريعة وقراءات، تراث كون شخصية عصمتها من أن تنزلق برامجها إلى الجمود أو ينحرف طريقها نحو التطرف، فكانت على قدر مسئولية المتخلق بأخلاق القرآن فصار الوقار – وكان لابد أن يصير- أهم سماتها والذى اقترن بأصوات مذيعيها أصحاب اللغة السليمة والسهلة الميسرة التى تناسب الجميع على اختلاف مراحل أعمارهم ومشاربهم الثقافية ومستوياتهم العلمية، ليس في مصر فقط ولا حتى في المنطقة العربية، بل في العالم الإسلامي بأسره.
لكن هناك من يتربصون بهذا الوقار ويتحينون الفرص إليه ووجدوا من الغزو الإعلانى وسيلة، حيث سبق منذ أكثر من عشر سنوات أن تم فرض إعلانات عن سلع استهلاكية مع مصادفة قدوم شهر رمضان حينذاك، فوجدنا إعلانات عن (السمن والجبن والزيت) تتخلل قراءات محمد رفعت وعلى محمود والشعشاعى في تلاواتهم، والحصري والمنشاوى وإسماعيل وعبد الصمد والبنا في تراتيلهم، فكنت تفاجأ بمن يكاد يفزعك متعجلا مقتحما يقطع التلاوة معلنا نهايتها بصوته “صدق الله العظيم” دون أن ينتظر أن يتم ختم القراءة بصوت القارئ نفسه كما تجرى العادة، ثم إذا به يقدم لك بطريقة لا تناسب جلال القرآن ولا وقار الإذاعة ولا حتى صوت المذيع المتكلم نفسه، إعلانا عن (سمنة أو جبنة أو زيت)، أو أى من السلع بطريقة هزلية فجة يزيد من فجاجتها أنها تأتى وسط هذه الأجواء القدسية!.
هذا حدث بالفعل (ولو استمر أيامها لفترة قصيرة) وأثار ضجة تم تداركها سريعا لاحتواء الغضب المتصاعد من ملايين المستمعين في مصر والعالم بل من داخل مبنى ماسبيرو نفسه وخصوصا من العاملين بإذاعة القرآن الكريم، وماذا يعنى.. هل كان عيبا؟!
هل هو حرام؟!
ويبدو أن هذين السؤالين كانا وراء العودة بعد بضع سنين للإعلان في إذاعة القرآن الكريم عن ماركة (ينسون) باعتبار من رأى أن الينسون له دلالة ما عند الناس، رغم هزليتها، إلا أنه أقنعت إدارة الإذاعة ذات النزعة الينسونية وقتئذ بعدم تعارض ذلك مع الوقار الذي يجلل تاريخ وحاضر هذه المحطة واسعة الانتشار، فجاء صوت يعلن بطريقة استعراضية ممجوجة عن ذاك الينسون.
لكن فيما يبدو أنه تم تدارك هذا الأمر وعادت المحطة خالية من الإعلان الينسونى مع بقاء بعض الإعلانات عن برامج إليكترونية حول القرآن أو أعمال خيرية أو خدمية.
لكن السؤالين مازالا بلا إجابة؟!.
أقسم بالله ما أفسد شيء المشهد الدينى، العام أو الخاص في مجتمعنا، بقدر الإصرار على إقحام هذين السؤالين بمناسبة أو بدون مناسبة.
ولا تنتظر خيرا بعد هذا الاقتحام.
فليس معنى أن أمرا ليس عيبا أن نؤتيه ولا دلالة أنه غير محرم أن نصر عليه بحجة عدم التحريم
يا سادة لا أريدها مسألة فقهية ولا أطروحة جدلية فارغة للنقاش بأى شكل
ولكن دعنى أسأل: هل من الحرام أن ترتدى – مثلا- جلباب النوم في العمل أو أن تتمدد على شيزلونج على البلاج بالجبة والقفطان والعمة أو تسير بالبيجامة في الشارع أو تمارس رياضتك ببدلة كاملة وكرافت؟!
الأمر ليس للحلال والحرام، إنما المناسب واللائق.
إن هناك شخصية لهذا الكيان العظيم الذي تسمى باسم القرآن الكريم، شخصية تكونت على مر الزمان، صارت واحة نأوى إليها هاربين من زحام الحياة بكلما تفرضه أو تحمله من سخافات تبدو أحيانا مقترنة بضرورياتها، فتأتينا موجات محطة القرآن الكريم كالمنقذ، نستمع إلى قراءها لنغسل بتلاواتهم أنفسنا مما يعلق بها من أدران، وكذلك نستمتع بما تقدمه برامجها القصيرة من مواد وفقرات كان أكثر ما يميزها هو حفاظ مذيعيها على اللغة السليمة، فلم تتسلل إليها اللهجات العامية المتقلبة إلا فيما لا يؤثر على نقاء لغة الخطاب، فالسمت الوقور لهجتها، ولا يمكن أن تناسب المواد الإعلانية التى تستهدف في الأساس جذب الانتباه بأى وسيلة وكان حدثا هزليا أن تسمع صوتا يجلله الوقار، لكنه هذه المرة يحدثك عن مميزات سلعة أو خدمة معينة بطريقة إعلانية يبدو فيها الهزل والخفة واضحين ولا عذر له ولو كان خاليا من الإسفاف والتدنى، فما ضمانة أن تجرنا سياسة الإعلان مع توالى المكاسب إلى ما هو أشد وأنكى من ذلك.
وما يدرينا.. شيئا فشيئا حتى نعود لمهزلة ما حدث من قبل من قطع التلاوات القرآنية لأن فقرة الإعلان قد حانت.
ولا أخفي أننى قلق، وباعتبار أنى واحد من المؤمنين بنظرية المؤامرة، فلا أستبعد أن الإذاعة مستهدفة، ليست إذاعة القرآن الكريم وحدها، لكن الإذاعة المصرية كمؤسسة راسخة بكل محطاتها الإذاعية التى مازالت تحافظ على كثير من تقاليدها أمام هذا التيار الجارف المحيط بها وتحتفظ، بل وتستعيد الكثير من الجماهير التى فقدتها في زخم الوسائط الأخرى التى اتسمت بفوضى هادرة، نجت منها الإذاعات المصرية (الرسمية) بأعجوبة حتى الآن.
لقد حاولت جماعات ظلامية أن تتسلل إلى إذاعة القرآن الكريم وفشلت فشلا ذريعا، بينما يقف من يتربص مثلهم مدفوعا برغبة الاستيلاء نفسها حتى بدا وكأن هناك صراعا خفيا بين (التطرف والتطرف المضاد) للوصول إلى ستديوهاتها ولكل أساليبه الخفية التى نعرفها جميعا، وأول أسلوب معتمد وهو أسلوب مجرب وأثبت كفاءة في عدة مجالات وهو الاستدراج بحجة توفير مصادر تمويل ومادام الأمر قد دخلت فيه كلمة (فلوس) فانتظر أن تشم بعدها رائحة فساد!
رائحة أربأ باستديوهات إذاعة القرآن الكريم أن تسمح بأن تتسلل إليها مهما كانت الأسباب؟
أرجوكم.. أستحلفكم بكتاب الله الذي انتسبت إليه إذاعتكم الموقرة، أن تنتبهوا إلى هذا الأمر الجلل جيدا ولا تسمحوا لأى قوى بالتسلل إلي ساحاتكم المطهرة بتلاوة الذكر الحكيم.
(يا ناس.. يا عالم.. دي إذاعة القرآن الكريم.. والله حرام عليكم.. اللهم ألا وقد بلغت.. اللهم فاشهد).