بديع أبو شقرا .. شاعر برع بالتمثيل وتألق في السياسة
بقلم : محمد حبوشة
لفن التمثيل وجهان، أحدهما موضوعي والآخر ذاتي، وعلى الممثل أن يشعر بدرجة معينة بشعور الشخصية التي يمثلها ويظهر انفعالاتها، وأن يبدو كما لو كان يعيش الدور، وأنه منجرف مع فعل الشخصية ودوافعها وأهدافها، ومن جهة أخرى عليه أن يحتفظ بقدر من الموضوعية ومن الانفصال عن الشخصية، وأن يحافظ على ذاتيته وعلى سيطرته على نفسه، وأن يكون واعيا لحقيقة كونه يقف على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، ليمثل لمجموعة من المشاهدين، وأن يكون مدركا لكيفية توظيف جسمه وصوته وحركاته وايماءاته الجسدية والصوتية لملامح الشخصية، وإن على الممثل فوق كل ذلك أن يسيطر على شخصيته الذاتية عن طريق موقفه الموضوعي، ليتمكن في النهاية من أن يخلق التوازن بين الذاتي والموضوعي.
تلك الصفات وغيرها هى ملامح مهمة وضرورية في حياة النجم اللبناني المتألق حاليا (بديع أبو شقرا) ضيفنا لهذا الأسبوع في باب (في دائرة الضوء)، ولأنه شاعر وروائي وسياسي من طراز رفيع فهو يدرك جيدا أن مهمة الممثل مزدوجة، ومن ثم فعليه أن يبدو وعليه أن يكون، أن يبدو شخصا آخر، وأن يبقى على واقعه الخاص، وهكذا يجمع (أبو شقرا) بين التظاهر والكينونة، والتظاهر هو القناع الذي يرتديه الممثل، والكينونة هى الوجه الحقيقي له، إذن لا بد أن يبقى القناع شفافا لكي يتبين من خلاله الوجه الحقيقي، فكيف للذي يقيم أداء هذا الممثل أو ذاك بسهولة أن يفرق بين الوجهين؟
في حالة (بديع أبو شقرا) يبدو التقييم سهلا وبسيطا، فعندما يؤدي دورا أو يمثل شخصية غير شخصيته لا تختلف تقنيات أدائه كممثل فيها سوى بحالة واحدة هى أن الممثل في المسرح يواجه الجمهور مباشرة، أما في السينما والتلفزيون، فإنه يواجه الجمهور وبصورة غير مباشرة وعبر جهازي المايكروفون والكاميرا، ويمكن القول بناء على ذلك أن الممثل في المسرح يحتاج إلى شيء من المبالغة في تعبيره الصوتي والجسماني لكي يوصلها إلى أبعد متفرج في الصالة، أما في السينما والتلفزيون فلا يحتاج الممثل (بديع أبو شقرا) إلى المبالغة في الأداء، لأن الجهازين (المايكروفون والكاميرا) يكبران أو يضخمان التعبير ويقربانه إلى الجمهور، ولذا فهو يوازن بينهما بطريقة حساسة للغاية حتى تنسى أنه هو الذي يجسد الشخصية من فرط براعة أدائه.
في أداء (بديع أبو شقر) لابد أن تلمح مثلي مقدار تطابق أداء الممثل مع أبعاد الشخصية التي يمثلها ومدى التعاطف وعدمه، كما يبدو ملحوظا عنده صعوبة التفريق بين شخصية الممثل الذاتية أو هويته وشخصية الشخصية الدرامية أو هويتها، وهنا يدخل مبدأ التقمص وصدقيته، ومن ثم يزول تأثير التمثيل الحي ( بخلاف التمثيل في السينما أو التلفزيون) بسرعة انتهاء الموقف المسرحي أو بانتهاء العرض المسرحي بكامله، حيث ليس بالإمكان الإمساك بأداء الممثل بعد خروج المتفرج من المسرح، فالتمثيل في المسرح هو ابن اللحظة وقد يختلف أداء الممثل من عرض إلى آخر.
يعرف (بديع أبو شقرا) جيدا أن أداء الممثل يتحدد بحدود زمانية ومكانية، زمان ومكان العرض، ومدى ملائمتها لمزاج المتلقي، وهو ما يتطلب بالضرورة حضور الممثل أو ما يسمى بـ (الكاريزما) التي بدت لي واضحة جدا في عدة أعمال درامية شاهدتها عن كثب خلال الفترة الوجيزة الماضية مثل (خرزة زرقا، رحوا، للموت) وأيضا من قبل في (بردانة أنا، العميد، فكسر)، وهو ما يعكس إدراكا لديه بأن هذه (الكاريزما) لها تأثيرها الخاص في نفوس المتلقين، فقد يمثل ممثل لا يمتلك الكاريزما، دوره بإتقان ومع ذلك قد لا يلاقي الاستحسان من قبل الجمهور، ولاينسى (أبو شقرا) في كل هذا أن أداء الممثل يتأثر بالظروف الخاصة التي تحيط به رغم الادعاء بوجود عدم تأثره بها، فقد لا يكون مزاج الممثل في ليلة العرض أو لحظة وجوده داخل البلاتوه رائعا كما في الليلة السابقة، وفي الليلة اللاحقة، وقد لا يؤدي بشكل جيد كما أدى دوره في هذه الليلة أو تلك.
ربما لا تبدو هنالك ضرورة ملحة للتعريف بالممثل بديع أبو شقرا من حيث موهبته التمثيلية في المسرح، وهو ابنه البار الذي يعشقه إلى حد الجنون أو عبر شاشة التلفزيون توأم نجاحاته أو السينما العطشى دوما لوجوده على شريطها بقوة وفاعلية، بل يكفي للتعريف به أنه الآتي من عائلة تدعم الحريات في الخيارات العقائدية والوطنية والفنية، لذا نجده في كل مكان يرفع الصوت فيه ضد الظلم لأي جهة كان ومع كل حق للإنسان في كل ما يجعله حرا ومحترما وسعيدا في وطنه، وهنالك بعد آخر ينبغي أن تعرفه عنه أنه شاعر يؤدي جملة شعرية تنتسب إلى الشعر الحديث، يحاول فيها الوضوح الذي لا تصادره السهولة، والغموض الذي لا يصل إلى حدِّ الرمزيّة المغلقة.
ولقد استهواني التوقف بقدر من التأمل في شعر (بديع أبو شقرا) ذلك السياسي العنيد في مواجهة حكام لبنان، فالنقيض تماما سوف تشعره في كلمات، حيث أن أشعاره ترمز بالضرورة إلى إحساسه المرهف في التمثيل الرومانسي وأيضا براعته في تجسيد أدوار الشر المطلق، فمثلا في ديوانه الأخير (نَفَسْ) تلحظ أن قصائده إلى امرأة ترخي بظلالها على كل الكلام، ولأنها امرأةٌ، تبتدئ، ولأنها أم، لا تنتهي: (لك في كل قصيدة حبرها/ ونساؤها/ وأطفالها…/ امرأة من دون آخرة/ أم لا تنتهي)، ومن الـ (نَفَس) الأول، لابد أن يفهم القارئ أنّ الشاعر لن يقول له كل شيء، وأنه سيتركه يشارك في صناعة المشهد، ففي السفر نوم لا ينام، وأصابع عاشقة تقطف فرح الدمية من شعر، ومنام يرشح قهوة الأرق وعرقه: (حتى النوم لم يقْو على السّفر/ .. وأصابع تلعب عالقة في شعرك/ والأرق/ كأس من القهوة/ وفنجان من العرق/ يتصبب على جبين منام).
(أنفاس) أبو شقرا – يبدو لي أنها قادمة من قلب رئتي الحب، الذي يتجول بكل حرية وطلاقة على امتداد الصفحات وأنفاسها، فتغدو الوسادة لوحة حاملة وشم الصوت، والنظر لا يصل إلى مشتهاه إلا بالإغماضة، والابتسامة لن تكون ذات رنين إلا إذا كان لها رسم في مرايا الأعماق: (أغنيتي وشم على وسادتك/ …أنظري إلى مغمضة العينين/ وابتسمي داخل داخلك)، وتحت سماء الحب يحلو لأبو شقرا التكرار، بكل ما فيه من نزق وإصرار، وهو العاشق المدمن أنثاه صباحا وظهرا ومساء، كأنها أيقونة الوقت كله في عنق قلبه: (أراك في الصباح قالت/ وهى لا تعرف أنّني أدمنتُ صباحها وظُهرها ومساءها).
وإذا كان لأبو شقرا قصائد على نول حبر عاشق – على حد قول الشاعر قزحيا ساسين – فإن أنثاه أيضا ليست بريئة من الكتابة، ولها من أنين الكلمات قصائد ومن جسد الشاعر ورق)، وهي لا تعرف أنها تأكل بعض الأحرف عندما تنتشي/ يختلط أنينها بكلامها/ فتنظم أشياءها/ قصائد على جسدي) وكما للعشق وجوا طاغيا في شعره فإن للمدن في الشاعر ما للنساء، وكيف إذا كانت المدعوة إلى وليمة الشعر بيروت التي يراها زهرة يانعة تقطفها الأيدى الغادرة بين الحين والآخر، فهو يطلع بيروت من قلبه ليخاطبها، فيتمناها جرحاعملاقا يذهب بالبحر من حمرة إلى زرقة: (يا ليتك بيروت/ جرح ملأ البحر دما/ وغطى أسطحا لبيوت) ويزعم أنه رجلها، وأن له فيها جنينا: (عشقت حملك مني)، وبما أنها الأنثى التي تحتضن الخلق والإبداع بإيقاع أنثوي ممتلئ تبقى واحدة وحيدة تعيش على دم عشاقها: (يا امرأة الكون/ يا امرأة تمر مرة واحدة/ تقضي عليك/ وتنقضي).
وفي سياق الألم المتواصل الذي يعيشه جراء أوضاع لبنان المأسوية يعلن الشاعر (بديع أبو شقرا) أن النهاية ليست أكثر مما تحتضنه البداية، أو بمعنى آخر هى ما هو غامض في البداية، ما يعني أن الإبحار في الحياة وهم، والحياة هى الرصاصة الأولى التي تعلن ابتداء المعركة ونهايتها في آن واحد: (لحظة هى بدايتنا/ نحملها معنا ككلّ البدايات/ وهى في الحقيقة/ نهايات)، وفي فتح الأشرعة قِبلة السماء، يرى أبو شقرا الله بعيدا من الأثواب السوداء، والزينة الذهب، يراه خارج الكلمة المألوفة رسالة وكتابا، باعتبار أن الإنسان يرسم طريقه إلى السماء على طريقته: (سأعتنق الله هداية دينونية/ لا أثوابا سوداء/ لا ذهبا مرصعا/ لا رسائل لا كتبا/ لا ما كتب لنا/ بل ما كتبناه لأنفسنا) وفي هذا البوح يتحول الشاعر بنصه من الإيحاء وجمالية الرمز إلى لغة مباشرة لا تستطيع أن تكون قفيرا يضجّ بعسل القصيدة حين تضم النحل تحت جناحيها.
ولشعر (أبو شقرا) أيضا بعد نضاليا والتزاما يدل عليه المعنى المستريح في ظل ضمير الجمع، وفي هذا السياق يقول قزحيا ساسين: يدل بالإصبع من طاقة الغربة على القدس، ويستغرب عودة مع إذلال من أهل البيت: (عائدون/ عائدون/ ندوس القدس فكيف نحن عائدون)، وبعين يملأها رمد الخيبة يرى أبو شقرا آتي النضال وغده حروبا سوف تكون دُمى خيال لا انتصارات تحمل على رؤوس الرماح: (سأعتزل لأن الحروب القادمة استحضارٌ لواقعات تصلح لي قصصاً لبطولات خياليّة ليس إلا).. كم هو جميل وقع كلماته التي تدل على روحه المتقلبة بين العشق والرومانسية وأوجاع لبنان وفلسطين وغيرها من مناطق العالم العربي.
ولد الفنان (بديع أبو شقرا) في جبل لبنان وينتمي إلى عائلة درزيه وهو ممثل وكاتب لبناني ينتمي إلى عائلة فنية فأختة هى المطربة (حنين أبو شقرا) ولديه أخ يدعى بيان أبو شقرا، أحب التمثيل والفن منذ صغره فبعد تخرجه من المدرسة الثانوية في عام 1994م دخل بعد ذلك الجامعة اللبنانية وأكمل دراسته في مجال التمثيل وتخرج منها في عام 1998 م وبعد ذلك درس في أحد الجامعات الكندية في مجال إدارة الأعمال وحصل على الماجستير ثم التحق بمعهد التمثيل مرة أخرى ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية وتخرج منه في عام 2004 م، كما كانت له مشاركات ودور ملحوظ في المظاهرات اللبنانية التي نشبت في بيروت عام 2015 م، كما أصبح عضو في (الحزب الليبرالي بكندا)، وحاز على المركز الأول في برنامج رقص النجوم الذي شاركته فيه التونسية (ريم السعدي).
أول أعمال (بديع أبو شقرا) الفنية كانت من خلال مسلسل (طالبين القرب) في عام 1997، والذي قام بإخراجه مروان نجار، كما كانت له مشاركات كثيرة في البرامج التلفزيونية في لبنان، وكانت لنشأته في عائلة تدعم الحريات العقائدية والفنية وحتى الوطنية هى السبب في دخوله إلى عالم السياسة والتعبير عن رأيه بحرية، فهو يدعم حقوق الإنسان والحريات العامة، ومع ذلك فقد نجح جدا في تجسيد الأدوار الرومانسية، وذلك لأنه على الرغم من موهبته ولكنه دائما يثقلها بالعمل حيث حضر عدد كبير من الورش الفنية والتمثيلية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي لبنان وفي تونس والأردن وفرنسا كما أنه كاتب وشاعر وروائي ناجح، فمن أعماله رواية (اعتزلت الحياة في الرابعة)، وديوان (الرجل الذي رقص).
غاب الفنان بديع أبو شقرا عن الشاشات لفترة كبيرة منذ عام 2002 م إلى عام 2008 م ولكنه عاد بقوة من خلال مسلسل (ابني) الذي تشارك بطولته مع الفنانة نادين الراسي، ومن أهم أعماله المسرحية والسينمائية والتليفزيونية (مسرحيات: كأس ومتراس كبسة رز ، كلكن سوا، فينوس، ابن بطوطة ، بنت الجبل)، و في الدراما التليفزيونية (مسلسلات: بالقلب، العميد، بيروت واو 4، بردانة أنا، ومشيت، انت مين، مش أنا، لآخر نفس، شوارع الذل، الرؤية الثالثة، الغالبون، لولا الحب، رياح الثورة، جنى العمر، شيء من القوة، رياح الثورة، ابني، جود، لمحة حب، زمن الأوغاد، طالبين القرب) وعلى مستوى السينما إفلام: يلا عقبالكم شباب، أحبيني، فيلم أرض الطف،تاكسي البلد ، رصاصة طايشة)، وغير ذلك من أعمال حديثة مثل (خرزة زرقا، راحو، للموت، العميد، فكسر)، والتي برعت في تجسيد أدوره فيها مابين الرومانسي والشر والأدوار المركبة.
يرى الفنان بديع أبو شقرا أن المرأة هى الدور الأهم في المجتمع ويرى أنها هى مقياس الحضارة في أي مجتمع ويرى أنه كلما زاد تحرر المرأة وكلما زادت حريتها زاد المجتمع تقدما وحضاريا والعكس صحيح، فكلما كانت المرأة غير حرة أو غير متحررة كلما يكون المجتمع متخلف كما كانت له حركات داعمة للمرأة، ولهذا فقد شارك في الكثير من النشاطات التي تخص دعم المرأة مثل مشاركته في حملة (كفى استغلال) وحملة (كفى عنف) في عام 2011 م والتي من خلالهما كان يطالب بوقف العنف ضد المرأة، وشارك أيضا في مسيرة لوقف العنف ضد المرأة تحت عنوان رجال لبسوا أحذية نسائية ذات كعب عال التي تحمل شعار (سر ميلا واحدا بحذائها).
وفي النهاية لابد من تحية تقدير واحترام لهذا الفنان والشاعر والروائي والممثل والراقص أيضا اللبناني (بديع أبو شقرا) الذي يقول دوما أنه يحتاج جرعة زائدة من الواقع هى الحقنة التي يحتاجها مع كل تجربة تمثيلية جديدة يخوضها، ويعود ويؤكد من خلالها أنه مدمن على شغف هذه المهنة رغم متاعبها، فبالنسبة له (النجاح أو الفشل لا يهمان، فالغاية الأساس هى المتعة)، وهو شعور لم تستطع أن تمنحني إياه أي محاولة مهنية أخرى، ولذلك كنت أعود دوما إلى التمثيل باحثا عن هذه المتعة المطلقة التي لا ترتبط بشهرة أو نجاح أو حتى بمردود مادي، بل بشعور غامر بالفرح، الفرح المجرد من أي شيء آخر.