الحيطة المايلة (6) .. لا بترحم و لا …
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
منذ أيام دعانى صديقى الشاعر و الصحفى الدؤوب وائل السمرى إلى ندوة عن المسرح الجامعى ، أقامها مركز اليوم السابع للثقافة و الفن و التنوير ، و لقد سعدت بهذه الدعوة لوجودى وسط صحبة رائعة ضمت أصدقاء من كبار المبدعين و شبابهم ، و بعضا من ناشطى المسرح الجامعى ، كما سعدت أيضا بموضوع الندوة فهو محبب إلى قلبى بصفتى أحد خريجى المسرح الجامعى الذين يدينون له بالفضل ، سواء فى مرحلة التكوين أو مرحلة الانتشار .
و اكتملت سعادتى بالتعرف على أنشطة المركز الذى أقامته مؤسسة اليوم السابع مؤخرا للاهتمام بالثقافة و الفنون من خلال مشروعات طموحة و متعددة منها : إصدار الدراسات فى القضايا الشائكة ، و طباعة الكتاب الأول للشباب ، و تكوين فرقة مسرحية من الهواة ، و المساهمة فى تمويل الفرق المستقلة ، و غيرها من المشروعات التى تزرع الأمل فى شباب المبدعين على اختلاف نوعيات ابداعهم ، فالمركز – كما يقول الكاتب المتألق خالد صلاح – (يمثل خطوة أولى على طريق تحول اليوم السابع من منصة إعلامية وجهة نشر إلى شريك حقيقى مباشر فى دعم الثقافة والفنون والفكر والإبداع وقيم الحداثة والتنوير، والتصدى للأفكار المتطرفة والقوى الظلامية التى تحاول اختطاف المجتمع وتشويه الهوية المصرية ومخزونها الحضارى العميق).
و هكذا تضرب مؤسسة اليوم السابع مثلا على تحقيق التواصل المفتقد ما بين المؤسسات الإعلامية الخاصة و الخدمة المجتمعية . فبرغم أن هناك دور اجتماعى و ثقافى لكل المؤسسات سواء الإعلامية او الصناعية أو التجارية من المفترض القيام به ، إلا أن هذا الدور مفتقد و بشدة ، فمازالت الرأسمالية المصرية لا تدرك انها لكى تستمر و تقوى و تزدهر عليها ممارسة دور مؤثر اجتماعيا و ثقافيا ، و لم تستفد تلك المؤسسات و الشركات الضخمة و البنوك العملاقة من تجربة الاقتصادى الوطنى الكبير طلعت حرب الذى أقام بجانب البنك مجموعة من الشركات و لكنه لم ينس وهو يبنى لعماله مساكن لائقة و بجوارها مستشفى ، أن يبنى لهم دارا للسينما و مسرحا ، ثم توسع بأن أقام صناعة للسينما تضم استوديو ضخم و معامل و دور عرض الى جانب مسرحنا القومى الذى نفخر به حاليا ، ليسجل التاريخ لهذا الرجل القيام بدور عظيم فى الثقافة المصرية عن طريق رافدها الهام : الفن ، و فى نفس الوقت يروج للبنك و شركاته من خلاله و يعلن عن نشاط شركاته بشكل غير مباشر .
إنه رجل عرف منذ زمن طويل أن الرأسمالية الحقة لا تعنى المكسب فقط بل عليها العمل على تدعيم هذا المكسب و استقراره بتحسين ظروف معيشة المجتمع ماديا و معنويا ، و أن يمتد دورها ليشمل دعم المناحى الثقافية أيضا . فالثقافة صناعة وطنية ثقيلة ، تشارك فى صياغة الهوية و تعزز الانتماء و تمثل جسرا بين الماضى و الحاضر عابرا إلى المستقبل حاملة مشعل التنوير ، و بالتالى فتلك الصناعة ليست مسئولية وزارة الثقافة وحدها ، و لا مسئولية الحكومة فقط ، بل يقع جزء من المسئولية على الأفراد ، خاصة من يملكون الوعى و المال من رجال الأعمال كما رأينا فى أوروبا منذ عصر النهضة و حتى الآن ، و كما نرى فى أمريكا من احتضان شركات رجال الأعمال لمشروعات ثقافية .
و برغم أن تلك الحقيقة تعلمها الحكومة – و من المفروض أن يعلمها السادة النواب – فلم نر اقتراحا بتشريع واحد يحض رجال الأعمال على المساهمة فى دعم الثقافة أو التبرع لها – بل على العكس – فقانون الضرائب قد حدد نسبة 7 % فقط من الدخل تخصم من الوعاء الضريبى تحت بند التبرعات ، أيا كانت قيمة هذا التبرع !! ، و هذا معناه أنك لو تبرعت بكل ثروتك فلن تُخصم سوى النسبة المقررة ، فلماذا تتبرع بأكثر ؟ و لأنها حكومة ذكية و ( أروبة ) فقد وضعت القانون لصالحها وحدها ، فالوسيلة الوحيدة لخصم قيمة التبرع بالكامل هو أن يكون لصالح جهة حكومية ، و هكذا فان التبرع لمستشفى حكومى افضل للمواطن من التبرع لمستشفى خاص .
و بالإضافة إلى هذا فليس هناك ما يغري رجال الأعمال للتبرع للثقافة ، فلن يكتسبوا منها لقب (المحسن الكبير أو رجل البر و الإحسان) ، و لن تعود عليهم بالشهرة و لهذا فإن معظمهم يضعون التبرع للنشاط الرياضى – خاصة الكروى – فى المرتبة التالية بعد الأعمال الخيرية ، فهذا التبرع سيضمن له و لمنتجاته شهرة كبيرة و وجاهة اجتماعية ، و كسب لأنصار بالملايين ، من مشجعى النادى الذى تبرع له . أما الثقافة فليس لها جماهير .
و حسب علمى ليس هناك مؤسسة لرجال الأعمال تقوم بدورها فى العمل الاجتماعى إلى جانب العمل الثقافى إلا (مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية) التى أُشهرتها عائلة ساويرس في عام 2001 ، لتتصدى للعديد من القضايا الهامة التي يواجهها المجتمع كقضايا الفقر، البطالة، الصحة، التعليم ، و منذ عام 2005 بدأت مؤسسة ساويرس في تنظيم مسابقة “جائزة ساويرس الثقافية ” بهدف تشجيع الإبداع الفني وإلقاء الضوء على المواهب الجديدة الواعدة في مجالات الرواية ، والمجموعات القصصية و كتابة السيناريو السينمائي والكتابة المسرحية . وفي عام 2013 تمت إضافة جائزة جديدة في مجال النقد الأدبى . إلى جانب مساهمتها فى تجهيز بعض قصور الثقافة فى النوبة ، و بذا قدمت نموذجا لمنظمات المجتمع المدنى التى تهدف الى تحقيق تنمية بشرية مستدامة .
أما البنوك المصرية الكبرى و البنوك الاجنبية العاملة فى مصر فمساهماتها ضئيلة فى مجال الثقافة و الفنون ، و معظم تلك المساهمات تدخل فى باب المنفعة المباشرة للبنك ، مثل اقتناء الأعمال التشكيلية لتزيين مقارها و مكاتب مسئوليها ، لكن لم نسمع عن بنك تولى رعاية فرقة مسرحية أو نشاط فنى أو ثقافى خارج جدرانه إلا فيما ندر و بمبالغ ضئيلة ، برغم شراكاتها الضخمة فى أوجه العمل الاجتماعى الخيرى .
و سواء كانت ميزانية الحكومة عاجزة أم لا عن القيام بتمويل جميع الأنشطة الثقافية ، فإن من واجب مجلس النواب إيجاد التشريعات التى تحفز المجتمع المدنى على القيام بدور فى دعم العمل الثقافى و تمويله ، فهذا المجتمع الذى يضم – حسب تعريف البنك الدولى – الجمعيات ذات الطابع الأهلى غير الحكومى و الأحزاب و النقابات و المنظمات التطوعية التى تهدف إلى تحسين معيشة المواطنين من خلال الأعمال الخيرية ، عليه أيضا – تبعا لنفس التعريف – إقامة البرامج التربوية و الثقافية و التعليمية التى تنشر التسامح و تقبّل الآخر .
و من خلال الأوراق الرسمية فإن الجمعيات المسجلة لدى وزارة التضامن تغطي الأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة التي نصت عليها الأمم المتحدة ( حسب تصريح الدكتورة غادة والى وزيرة التضامن السابقة )، وتشمل جمعيات تقدم الخدمات الثقافية والعلمية والدينية ورعاية الفئات الخاصة والمعاقين ورعاية الشيخوخة والمساعدات الاجتماعية ورعاية الأسرة والأمومة والطفولة وتنظيم الأسرة ورعاية المسجونين . وتوجد جمعيات تتخصص في حماية المستهلك والتنمية الاقتصادية للأسرة وتنمية الدخل وحماية البيئة والحفاظ عليها وأصحاب المعاشات والدفاع الاجتماعي .
لكننا سنجد – فى الواقع و على الأرض – أن أكثرية منظمات المجتمع المدنى فى مصر تعمل فى مجال حقوق الإنسان سعيا وراء التمويل الخارجى ، أو العمل الخيرى سعيا وراء بيزنس التبرعات ، فهناك أكثر من 29 ألف جمعية خيرية نشطة ، تتصارع على مبلغ 10 مليارات جنيه تخرج من جيوب المصريين سنويا ( منها 8 فى شهر رمضان وحده ) على شكل تبرعات أو زكاة ( هذا عدا ما يتبرع به المصريون للصناديق الخيرية الحكومية مثل بيت الزكاة التابع لمشيخة الأزهر و صندوق تحيا مصر ) ، لكن هذه الجمعيات لا تسعى لأى دور ثقافى أو فنى ، ذلك أن ثقافة المصريين تحبذ التبرع لأعمال الخير و لا تعتبر النشاط الثقافى من أبواب الخير.
أما الأحزاب السياسية و النقابات التى تعتبر جزءا من المجتمع المدنى فقد تقلص نشاطها الثقافى و الفنى بعد 25 يناير ، حتى أصبحنا نتحسر عليه ، فتوقفت معارض الكتب و الندوات و الأمسيات و العروض الفنية التى كانت تضيئ نقابتى المحامين و الصحفيين أو كادت ، و توقف حزب التجمع عن إصدار كتاب الأهالى الذى نشر أعمالا هامة ، كما اختفى نشاط الحزب الفنى الغنائى و المسرحى بعد أن كان رائدا فى تجارب فنية مثل مسرح الشارع . أما حزب الحرية و العدالة التابع للإخوان المسلمين فعندما حاول تقليد الأحزاب المستنيرة فى تكوين فريق للتمثيل إدراكا منه لضرورة أن يكون له دور ثقافى – إلى جانب توزيع الزيت و السكر – فقد قدم عروضا بلا نساء ، انعدمت فيها المعايير الفنية ( و الغريب أن شاركهم فى بعضها فنان يسارى و أخرجها معيد بمعهد الفنون المسرحية !! ) و لم يتبق لمعظم الأحزاب نشاطا سوى بعضا من ندوات قليلة يحضرها جمهور أقل ، و لا يكاد أن يكون لها تأثير على المجتمع .
و برغم ندرة مشاركة المجتمع المدنى حاليا فى دعم الثقافة ، و برغم معرفة الدولة بهذا فإنها تضع العراقيل أمام الفعاليات الفنية و الثقافية بإشتراط مشاركة هذا المجتمع فى التمويل ، فعلى سبيل المثال فإن قرار رئيس مجلس الوزراء المنظم لعقد المهرجانات الفنية و الفاعليات الثقافية غير الحكومية ينص على تقديم ميزانية أى مهرجان بالكامل للجنة العليا للمهرجانات المشكلة بموجب نفس القرار ، و يشترط القرار أن يتحمل المجتمع المدنى نسبة 60 % من قيمة الميزانية المقدمة ، على أن تتحمل الجهات الحكومية مجتمعة ما قيمته 40 % ، و هو ما لا يتوفر لكثير من المهرجانات و اللقاءات الثقافية .
و يظهر بوضوح عداء الحكومة للثقافة فى قطاع الأعمال التى تشرف عليه ، فلقد ألغت نسبة 5% المخصصة من ميزانية الشركات و المؤسسات للصرف على الأنشطة سواء الرياضية أو الفنية أو الثقافية – و التى كانت مقررة بحكم القانون قبل ضم تلك الكيانات لقطاع الأعمال – و بعد أن كانت مسابقة الشركات تمتلئ بالعروض القوية التى لا تقل عن عروض المحترفين ، و فرقها الرياضية منجم لكل الأندية ، اندثرت فرق فنية عديدة كان لها سمعة طيبة ، كفرق تمثيل : شركة النصر للسيارات و مصر للطيران و جريدة الأهرام و غيرهم .
و هكذا تتم محاصرة الثقافة بضعف التمويل ، و غابة من القوانين و اللوائح لا تصلح لإدارة العمل الثقافى ، و رقيب مرتعش تخلى عن دوره لكل من هب و دب ، و غياب التشريع لتشجيع المجتمع المدنى على المشاركة ، و هكذا تطبق الحكومة بكل حزم مبدأ ( لا بترحم و لا بتسيب رحمة ربنا تنزل ).
و للحديث بقية ..