الحيطة المايلة (4) .. باب جهنم
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
أحيانا ما يعترض بعض المبدعين على إقامة منشآت ثقافية جديدة أو تجديد أخرى قديمة – و خاصة إذا كانت بتكلفة ضخمة – بدعوى أنه كان من الأجدر صرف تلك الأموال على العملية الإبداعية نفسها ، و لا يدرى هؤلاء أنه لا يجوز صرف أى أموال من الباب السادس – حسب أبواب الموازنة العامة للدولة – إلا على الأبنية ، سواء بالإنشاء أو الإحلال و التجديد ، أو على المعدات سواء بالشراء أو بالصيانة الشاملة . و بالرغم من ضخامة الأرقام المنصرفة فى ذلك الباب ، فإن وزراء الثقافة المتعاقبين أعلنوا – سواء أثناء وجودهم أو بعد رحيلهم – إنهم عانوا من ضيق ذات اليد الحكومى فى الصرف على الأبنية التى تحتاج إلى صيانة و إلى إحلال و تجديد دائمين ، حتى أن الدكتورة إيناس عبد الدايم صرحت فى بيانها أمام مجلس النواب مؤخرا أنه بسبب ضعف الاعتمادات والمخصصات المالية هناك العديد من المؤسسات الثقافية إما متعثرة أو مغلقة ، إما لاحتياجها للتجديدات أو بسبب عدم تنفيذ الاشتراطات الخاصة بالحماية المدنية ، و كلاهما يحتاج لأموال ضخمة مما أدى لخروج تلك المؤسسات من الخدمة الثقافية.
و برغم أن وزارة الثقافة استطاعت إقناع وزارة التخطيط – التى تشارك فى تمويل الباب السادس مع وزارة المالية – بزيادة مخصصاتها العام الماضى (2020 ) إلى مبلغ مليار و 343 مليون جنيه ( ما يقرب من ميزانية الوزارة ككل ) بزيادة قدرها 44 % عن مخصصات العام السابق له ، إلا أن المبلغ لا يكفى سوى لاستكمال المشروعات المفتوحة فعليا و التى بلغت نسبة الإنجاز فيها 75 % و متوقفة فى انتظار مزيد من الأموال . و إذا كانت الوزارة قد أتمت 420 مشروع فإن أمامها 129 مشروع آخر ( حسب ارقام الوزارة الرسمية )
لماذا إذن لا تكفى كل هذه الأموال ؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نتخيل حجم نشاط الوزارة الذى يحتاج إلى مسارح و متاحف و مكتبات و قصور و بيوت ثقافة و أبنية لممارسة الحرف البيئية و الصناعات الثقافية و مبانى إدارية و تعليمية – فى جميع عموم الجمهورية بكل مدنها و قراها – و تجهيز كل تلك الأماكن بأجهزة الصوت و الإضاءة و التكييف و الأثاث و الأدوات المناسبة ، و علينا أن نتخيل حجم أعمال الصيانة لتلك الأبنية بما تحويه من أجهزة ، و أيضا احتياجاتها من أعمال الإحلال و التجديد بعد فترة نتيجة للاستخدام ، سواء كان استخداما رشيدا كما يحدث فى معظم الأبنية أو استخداما بجهل غشوم كما يحدث مع معظم الأجهزة . فللاسف الشديد – فى كثير من الأحيان – لا يتم تدريب العمال على استخدام الأجهزة الحديثة التى توضع بين أيديهم أو على كيفية استخدامها الاستخدام الأمثل ، كما أن التدريب لا يشمل أعمال الصيانة العاجلة أو كيفية معالجة الأعطال الخفيفة . و لدى الجميع قصص تفوق الخيال عن وقائع إفساد أجهزة تكلفت أموالا طائلة بسبب جهل العاملين عليها ، أو بسبب سوء التشوين و التخزين . هذا بخلاف أن اختيارات اللجان التى تشترى المعدات – حسب القانون – تتجه الى الأرخص سعرا ، و هى بالطبع أقصر عمرا ، و قطع غيارها غير متوفرة أو غالية بشكل فاحش ، و هو أمر تتعمده كل الشركات المصنعة للمعدات الرخيصة ، حتى تضطر لشراء جهاز آخر مع أول عطل يحدث.
و على عكس الأجهزة تأتى الأبنية ، فقد أصبح البذخ سمة الصرف على أبنية الوزارة منذ عصر الفنان فاروق حسنى ، فشاهدنا قصورا للثقافة كل منها بتصميم مختلف و يغطى واجهاتها الرخام و تمتلئ طرقاتها بالسيراميك ، و قاعاتها بالموكيت ، بعد أن كانت فى الستينات أبنية بسيطة ذات تصميم موحد يمتاز بالتوظيف الأمثل للمساحات و بها أمكنة مخصصة لكل الأنشطة ، و كان أبرز ما يميزها وجود مسرح على أفضل ما تكون مواصفات المسارح برغم صغر الحجم ، أما معظم المسارح فى الأبنية الحديثة فإنها تفتقر للمواصفات الصحيحة ، و لا تزيد عن كونها قاعات للمحاضرات ، فهذا مسرح بلا كواليس و هذا على شكل معين و ليس مستطيل ، و ذاك بعامود يحتل جزءا من الخشبة !! و فى هذا الموضوع حدث و لا حرج .
و لم يقف البذخ عند التصميمات و تكاليف التنفيذ فقط ، بل هناك وقائع لاماكن بدأ العمل بها على أساس أنه ( إحلال ) نتاج لحريق أو تصدع جزئى أو ( تجديد ) مثلما حدث بعد زلزال 1992 الذى تسبب فى تصدع ما يقرب من 17 قصر ثقافة ، ثم فجأة تتعاظم العملية لتصير ( تطوير ) و الفارق كبير بين الحالتين ، فى الأولى تقوم الوزارة بما يشبه الترميم و الإصلاح و فى الثانية من الممكن أن تزيل أجزاء كاملة لتبنيها من جديد دون ضرورة أو احتياج فعلى ، و فى بعض الحالات يتم استخدام بند قانونى يسمى ( استكمال اعمال ) يتيح زيادة فى الصرف بما يوازى 25% من قيمة العملية للتوسع فى الإنشاءات ، و كثيرا ما يتم استخدام هذا البند سواء كان ضروريا أو لمجرد زيادة الفخامة و البذخ.
و الحقيقة أنه سواء كانت العملية تقع تحت بند الإحلال أو التطوير فغالبا ما كان يصاحبها المشاكل مع شركات المقاولات التى ربما تنهى العمل بشكل سيئ يخالف المواصفات ، حينها تضطر الوزارة إلى طلب تعديلات أو الالتزام بالمواصفات ، و ترفض بعض الشركات فتدخل الوزارة فى نزاع قضائى مع تلك الشركات و تمتد النزاعات لعشرات السنوات ، تتغير خلالها الأسعار ، فما كانت تكلفته قرشا تصير بعشرة قروش ، و تتداول المحاكم تلك القضايا الممتدة و المتشعبة بينما المؤسسة الثقافية مغلقة و لا يمكن استخدامها ، أو تتعثر الشركة المنفذة من بداية المشروع سواء لأسباب خاصة بها أو لأسباب خاصة بالإجراءات ، فيتم إسناد المشروع لشركات تابعة للدولة من أجل الانتهاء منها وذلك وفقا للقانون ( و للحقيقة لابد أن أشهد أن الشركات التابعة للدولة أو القوات المسلحة شديدة الالتزام و لم ينتج عن عملها مشاكل أو قضايا ).
و هناك مشاكل من نوع ثالث ، لا تعرف له رأسا من قدمين ، كمشكلة مبنى المسرح القومى الذى تم افتتاحه عام 2013 و مع ذلك لم يتم استلام المبنى بشكل نهائى من الشركة المنفذة خلال كل تلك السنوات و حتى الآن ، و برغم أن المسرح يتم العرض عليه ، إلا أنه يعمل تحت إشراف فنيو الشركة ، فهم المسئولين عن تشغيل أجهزة التكييف و الحماية المدنية و كاميرات المراقبة ، و تطالب الشركة باستلام المسرح و صرف باقى مستحقاتها ، و تطالبها الوزارة بإنهاء ملاحظات لها ، فتطالبها الشركة بصرف جزء من المستحقات و لكن لا يتم ( لا أعرف لماذا ) فتتمرد الشركة على الوضع فتسحب فنييها ، و يتعطل العمل بالمسرح ، ثم يتم التراضى و الوعد بإنهاء مستحقات الشركة و تحقيق الاستلام النهائى و تتكرر نفس الدورة من جديد و هكذا لمدة سبع سنوات حتى بات المسرح يحتاج لصيانة أو تغيير بعض المعدات التى استهلكت قبل استلامه رسميا !!
أعتقد أن هذه المشكلة نابعة من خوف بعض المسئولين من التوقيع و تحمل المسئولية ، و كيف لا و قد صاحب ( تطوير ) المسرح القومى بعد حريق 2008 كثير من اللغط و الهمس بوجود مخالفات ، ثم تحول الهمس بعد 2012 إلى صراخ . و بناء على بلاغات عدة قامت النيابة الإدارية بالتحقيق ، و لكنها لم تعاقب أو تُدِن أحدا ، و مع ذلك مازال اللغط مستمرا بسبب وجود أخطاء فنية لا يدركها القانون ، فعلى سبيل المثال فإن ( التطوير ) قد أنهى أسطورة الهمس فى نهاية خشبة المسرح الذى كان يسمعه الجالس فى مؤخرة الصالة ، و صار لابد من استعمال ( ميكرفونات ) ، و بما أنه ( لا جريمة إلا بنص ) كما يقول أهل القانون ، و ليس هناك نص يجرم عدم وصول الهمس لنهاية الصالة ، فلم يتم محاسبة أحد . كما أن المسئولين الحاليين لم يكونوا موجودين و لا مشاركين فى المشروع من البداية ، لذلك يتهربون من حمل وزر النهاية ، لأن الباب السادس المسمى بالاستثمار هو باب الوقوع فى الأخطاء المالية و الإدارية التى قد تؤدى إلى عزل أو سجن أى مسئول ، إنه الباب المفضى الى جهنم مباشرة بسبب كثرة أمواله التى تغرى ضعاف النفوس أو بسبب كثرة إجراءاته و تعقيداتها التى قد تودى بالشرفاء ، لذا يبتعد العقلاء عنه أو يتهربوا من التوقيع ، أو تصبح موافقاتهم مشروطة بموافقة المستشار القانونى الذى يحمى نفسه هو الآخر بوضع كافة الاحتياطات و ربما العراقيل قبل التوقيع.
أما الكارثة الكبرى التى تستهلك الكثير من الوقت و الجهد و المال فهى مايسمونه بإجراءات الحماية المدنية ، التى من المفترض أن تتوفر فى جميع أبنية الوزارة قديمها و حديثها . فكثير من أبنية الوزارة المعطلة و التى خرجت من الخدمة بسبب تلك الإجراءات التى زادت فى شدتها و تعقيداتها منذ حادث حريق قصر ثقافة بنى سويف ، و بعد أن أصبح هناك ما يسمى بالكود المصرى ( أى المواصفات المصرية الواجب توافرها ) أتحدى أن يفهمه أو يستطيع استخلاصه من الكتاب المطبوع سوى المتخصصين ، و لكن ما يثير الدهشة أن تصميم الأبنية يشارك فيه مهندسون متخصصون غى الحماية المدنية ووسائل الإطفاء ، و مع ذلك لا يتم منح التصريح بالعمل للمبنى إلا بعد عدة ملاحظات تتكلف كثيرا من الأموال و بعدها ملاحظات أخرى ثم ملاحظات ثالثة و هكذا . و كأن الملاحظات الثانية و الثالثة لم تكن موجودة من البداية .
و برغم كل ما سبق و برغم أن لوزارة الثقافة أكثر من 560 موقع ثقافى تابع للثقافة الجماهيرية وحدها ، التى هى جزء من 22 قطاع و هيئة تضمها الوزارة ، كلها تحتاج لأموال الباب السادس ، يقف أحد السادة النواب معترضا على أن فى أحد القرى هناك بيت ثقافة عبارة عن شقة صغيرة متهالكة !! .. هل يجب أن نقول للسادة النواب المثل الشعبى : ( يا جارية اطبخى .. كلف يا سيدى )، أم نقول بالفصحى : إذا أردت أن تطاع فأمر بما هو مستطاع
و للحديث بقية ..