عزاؤنا أنهم (باقون)
بقلم: محمود حسونة
الصدمات تتوالى والأحزان تتراكم والأوجاع تزداد بأخبار الموت المتلاحقة التي تأخذ من بيننا كل يوم جواهر ولآلئ أثرت حياتنا وساهمت في صنع تاريخنا، وقدمت لنا النفيس الذي نفخر به ونتباهى أمام الأمم والأجيال.
الموت في هذه الأيام يأتي كثيراً من دون سابق إنذار، ليختطف من بيننا أعزاء علينا وعظماء ومبدعين أثروا حياتنا وقدموا لنا ما يضيء الطريق ويحرض العقل ويشحذ الهمم ويبهج النفس ويلون الدنيا بألوان الفرح والأمل، يختطف من كانوا بالأمس بيننا يمنحوننا الطمأنينة، وبلا مقدمات ولا تمهيد، نفاجأ بهم ينتقلون من دنيانا إلى جوار رب العرش العظيم، ولا نملك سوى التسليم بقضاء الله والرضا بالمكتوب وطلب الرحمة والمغفرة للسابقين إلى عالم البقاء.
نرضى ونسلم ونترحم ونستغفر، ولكننا أيضا نحزن ونتألم ونتأمل ونفكر، خصوصاً أن رائحة الموت انتشرت بيننا خلال الأشهر الأخيرة بشكل غير مألوف، وبعد أن اختطف من بيننا العديد من المبدعين الذين سيظلوا خالدين في وجداننا خلال العام المنصرم ٢٠٢٠ ومنهم على سبيل المثال (لينين الرملي ومحمود ياسين ونادية لطفي وحسن حسني وسناء شافع وشويكار ورجاء الجداوي)، ودعونا الله أن يكون ٢٠٢١ أخف وطأة علينا لنفاجأ في ثاني أيامه بالموت يختطف الكاتب الكبير (وحيد حامد) بعد أيام من تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي، وبعده الفنان (هادي الجيار) بفعل فيروس كورونا اللعين، والأسبوع الماضي المخرج المسرحي الكبير (فهمي الخولي) بتأثير كورونا أيضاً، وأخيراً ونتمناه آخراً الفنان الكبير (عزت العلايلي).
أفضل توصيف يمكن قوله عن الراحل (فهمي الخولي) هو ما قالته عنه الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة من أنه علامة فارقة في تاريخ المسرح المصري. نعم كان علامة فارقة بالعروض التي أخرجها والتي خرج بها عن كل مألوف، ولعله هو الأكثر خروجاً بالمسرح من القاعات المغلقة إلى الهواء الطلق ولن تسقط من الذاكرة مسرحيته (سالومي) التي قدمها في (مقياس النيل) وشاهدها الناس من مراكب في قلب النيل ولعبت بطولتها رغدة أمام جمال عبدالناصر.
غلب على مسرحياته الطابع السياسي ومنها (الوزير العاشق، لن تسقط القدس، حمري جمري، الأندال)، ففاض إبداعاً ليقدم للقطاعين العام والخاص ١٠٣ عروض مسرحية، تعمد من خلالها منح الفرصة للكثير من المواهب الشابة التي انطلقت إلى عالم الشهرة من فوق خشبات عروضه؛ وعندما تولى إدارة المسرح الحديث كان طموحه غير محدود وقدم داخل مسرح السلام ٣ عروض يومياً، ولعلها التجربة غير المسبوقة ولا الملحوقة، كما لم يكتف بفتح الأبواب أمام الشباب من الممثلين، إنما أتاح الفرص للشباب الخريجين لتجربة الإخراج والتعبير عن طموحاتهم وهموم جيلهم مسرحياً.
آخر الراحلين هو الفنان الذي ليس مثله فنان، والذي اتخذ البساطة نهجاً والتميز هدفاً وعزة النفس أسلوباً، وكانت النتيجة أنه كما عاش كما مات، فنان كبير القيمة غني النفس عظيم الأثر بسيط المظهر والسلوك، لم تغيره الشهرة ولَم تغره النجومية ولَم يبدّل في صفاته النجاح ولَم تنل منه أو تضيف إليه عوامل التعرية الإنسانية، بدأ بسيطاً ومعتزاً بنفسه وانتهى بسيطاً وفخوراً بكل أعماله، ونحن أيضاً فخورين بالميراث الذي تركه لنا وللأجيال التالية، وهو من الفنانين الذين سنظل نتباهى بهم ونعتز بأعمالهم وتاريخهم.
إذا أردت الكلام عن (عزت العلايلي) الإنسان، فلا تتسع له صفحات وصفحات؛ يكفيه أنه الفنان الذي كان يقدّر الصغير كما الكبير في كواليس تصوير أعماله، وهو واحد ممن اتخذوا الفن رسالة وليس مجرد وسيلة للشهرة أو للنجومية أو للتعالي على خلق الله، كما أنه الفنان الذي لم يعط لأحد الفرصة للنيل منه، ولَم يضع نفسه في موقع القيل والقال، ولَم تكن سيرته على مدار تاريخه محل خلاف أو مصدر للشائعات الرخيصة، احترم نفسه واحترم فنه فاحترمه الجميع، والخصوم قبل الأصدقاء.
كان الفنان الراحل ممن يقدسون الأسرة ويقدرون الزوجة ويخلصون في الحب، وقد ظل وفياً ومقدراً لزوجته بعد رحيلها في عام ٢٠١٧ وعاش ذاكراً لها مستذكراً لمواقفها ومقدراً لعطائها ومفتقداً لوجودها، وفِي حوار تليفزيوني مع (صاحبة السعادة) قال عن زوجته: (ساعات أدوخ وأنا لوحدي في البيت مش متخيل إني لوحدي، بسمع صوتها، وساعات أقوم من النوم على صوتها، أعطتني كتير جداً، مقدرش أوفيها حقها)، ثم تابع حديثه عنها: (أنا ما كنتش هبقى ولا حاجة من غيرها، هى عارفة كل حاجة، وبتخطط لكل حاجة)، وهو كلام يكشف معدنه الأصيل ووفاءه النادر.
ترك (العلايلي) من الأعمال ما سيظل خالداً في وجداننا ووجدان اللاحقين، ومنذ زمن الأبيض والأسود وأفلامه من علامات السينما المصرية، فمن منا يستطيع أن ينسى (عبد الهادي) في فيلم (الأرض)؟ فهو ابن الأرض الذي يؤمن أنها العرض والشرف، الفلاح المصري المستعد لتحمل العذاب دفاعاً عن أرضه وعن وطنه، وكذلك دوره في فيلم (المواطن مصري) والذي قدم فيه وجه آخر للفلاح.
يكفي عزت العلايلي أنه الفنان الذي كان له ١٠ أفلام من بين أفضل ١٠٠ فيلم للسينما المصرية خلال القرن العشرين، وهى (بين القصرين، الأرض، السقا مات، زائر الفجر، الاختيار، على من نطلق الرصاص، اسكندرية ليه، أهل القمة، قنديل أم هاشم، الطوق والأسورة)، ومن ضمن أعماله المسرحية (أهلا يا بكوات) والتي تعد من أهم ما قدم مسرح الدولة في تاريخه.
رغم إدراكنا أن الذين رحلوا عن حياتنا خلال الفترة الماضية مبدعين قدموا لنا ما نعتز به وقاوموا بأعمالهم موجات التخلف والجهالة التي كانت تسعى لإظلام حياتنا وتفخيخ مجتمعنا، إلا أننا ندرك أيضاً أن الموت حق علينا جميعاً وأن مصر ولادة وأرضها خصبة، وستنجب من يعوضنا ويكمل مسيرة هؤلاء الرموز، وعزاؤنا أنهم سيبقون خالدين بيننا بأعمالهم وسيرتهم.
mahmoudhassouna2020@gmail.com