الحيطة المايلة : الثقافة
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
تابعت فى الصحف مادار فى البرلمان من تعليقات السادة النواب على بيان وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم ، و قد وصفت بعض الصحف هذه التعليقات بالهجوم الحاد ، فلقد أعرب بعض السادة النواب عن ضيقهم من حال الثقافة فى مصر و أن الوزارة لا تملك خططا مستقبلية و لا تقوم بواجبها ، بل و مقصرة تقصيرا شديدا فى إيصال الخدمات الثقافية لربوع الوطن و خاصة الصعيد ، و أنها لا تسوق لصورة مصر فى الخارج و … و ….
و الحقيقة أن حديث بعض السادة النواب يثبت أن لدينا بالفعل مشكلة حقيقية فى فهم الثقافة و الدور المنوط بوزارتها ، و حدود ذلك الدور و تقاطعاته مع أدوار لوزارات و جهات و كيانات أخرى ، فالسيد النائب الذى تكلم عن ( سياج تقيمه الوزارة لحماية الشباب من المواقع على النت ) لابد و أن نسأله و مادور وزارة الاتصالات المسئولة عن الفضاء الإلكترونى ؟ و مادور الأسرة التى باتت لا تلتقى إلا على الفيس أو الواتس؟ و ما دور الاعلام الذى يحتفى بالترند أيا كان ؟، ثم ما نوع السياج الذى يطالب به السيد النائب فى ظل سماوات مفتوحة ؟ .
هل يستطيع وضع مواصفات دقيقة له قابلة للتنفيذ أم مجرد مزيد من حجب المواقع ؟، أما السؤال للسيد النائب الذى تكلم عن دور الوزارة فى مجابهة الإرهاب فهو : أى مجابهة فى ضوء ما تقدمه بعض الجوامع و الزوايا و فتاوى الفضائيات ؟، أما السيد النائب الذى تحدث عن عدم وصول الخدمات الثقافية للصعيد ، فلماذا لم يسأل وزارة الإعلام عن تقصيرها فى نشر ما تقدمه وزارة الثقافة فى قنواتها الإقليمية ليضمن انتشارا اوسع بتكلفة أقل ؟.
أما السيدة النائبة التى تحدثت عن تعاون بين الثقافة و التربية و التعليم فى مجال الطفل ، فقد حمّلت الثقافة وحدها مسئولية مواجهة زيادة نسب الطلاق و التحرش و التنمر و كل الظواهر المستحدثة ، و أضاف آخر الإلحاد و الشذوذ و المخدرات و الانتحار . و هناك نائب أبدى دهشته من الغاء معرض الكتاب و إقامة مهرجان السينما و كأن الوزارة استبدلت ماهو أعلى بما هو أدنى !!! غافلا عن أن المعرض جمهوره يوميا بالآلاف بينما المهرجان جمهوره بالمئات، و بالتالى فإن نسب الإصابة بالوباء أعلى و أخطر .
المهم أن ملخص التعقيبات أن هناك أزمة حقيقة تواجه المجتمع المصري متمثلة في أزمة الثقافة التي يعاني منها الشعب المصري ( بنص حديثهم ) و السبب أن وزارة الثقافة ليس لها دور فى مصر !!
و هكذا بدى لى أن تحميل الوزارة ( وحدها ) المسئولية فى كل هذه الملفات ، عودة إلى نظرية الحيطة المايلة ، خاصة و أنه فى نفس المكان جرى وصف أفراد القوى الناعمة المصرية الذين سيتحملون تنفيذ كل هذه المهام بأنهم مفسدون فى الأرض .
فهل أقصد بحديثى هذا الدفاع عن الوزارة ؟
إجابتى هى لا ، فكلنا كمواطنين سواء كنا فنانين أو مثقفين أو لم نكن ، لنا ملاحظات و تعليقات على حال الثقافة و أداء الوزارة ، بل للبعض اعتراضات و شكاوى تصل إلى حد البلاغات ، و هذا أمر طبيعى لسببين : الأول ان كثير من أوجه العمل الثقافى تقوده وجهة نظر من يقوم به أو انتماء اجتماعى أو سياسى أو خبرات مكتسبة ، و الثانى أن أى عمل قابل لوقوع أخطاء فيه ، و ليس العيب أن تقع تلك الأخطاء ، و لكن العيب أن تستمر و تتفاقم و ألا يحاسب مرتكبها لو كانت مخالفة للقانون .
و إذا كنا نتفق مع السادة النواب – بشكل عام – على وجود مشاكل ، إلا أن معظمهم للأسف لم يلمسوا جوهرها و لم يتعمقوا فى دراستها قبل الحديث ، فعلى سبيل المثال – لا الحصر – أن الغالبية غفلت عن أبسط القواعد فى العمل الثقافى و هى أن عمل وزارة الثقافة يتكامل مع وزارات أخرى كالإعلام و الشباب و التربية و التعليم و التعليم العالى و الأوقاف و الآثار و يتقاطع مع وزارتى الداخلية و التنمية المحلية و تتحكم فيه وزارة المالية ، فأى ثقافة نتحدث عنها و كل وزارة جزيرة منفصلة ؟ و المفترض أن تتعاون كل هذه الوزارات من خلال استراتيجية موحدة.
و سؤالى للسيد النائب الذى أعلن ( زعله ) من عدم وجود استراتيجية : هل وضعت الدولة هذه الاستراتيجية – التى بالقطع لها أهداف سياسية – و استقرت عليها و حافظت على استمرار العمل بها ؟ أم أن وضعها مسئولية كل وزير حسب هواه ، و من حق الوزير التالى أن يغيرها – كما يحدث غالبا ؟
نحن جميعا ندرك أن الثقافة فى مصر – كمناحى كثيرة – تواجهها تحديات عديدة داخلية و خارجية و تعرقلها مصاعب و مصالح ، و تقاوم انتشارها معوقات و ضغوط ، و لقد آن الأوان للانتباه ، فالبعض يرى – و أنا منهم – أن الأزمة أعمق مما هو مطروح على السطح ، فالطبقة الوسطى المنتجة للثقافة و المستهلكة لها تتآكل ، لأنها تعانى من وضع مأزوم ماديا و فكريا ( و لهذا حديث آخر ) و لذا فنحن فى حاجة ماسة لادارة حوار جاد و مخلص حول مشكلات الثقافة و مايسمونه حاليا بالصناعات الثقافية ، حوار يتعمق فى أساس المشكلات دون سفسطة و دون استعراض لمصطلحات ، حوار يخلو من تصفية الحسابات و انتظار المكاسب ، حوار يشارك فيه الجميع دون أن يُجهّل بعضنا البعض أو نسفه آراء الآخرين .
و لكن قبل النقاش أود أن أوضح الاتى :
أن وزارة الثقافة الحالية بظروفها و نجاحاتها و اخفاقاتها ليست وليدة اليوم ، انها نتاج تراكم سنوات طوال ، أُعتبرت فيها الثقافة آخر الأولويات ، حتى أن اختيار وزيرها كان يتم فى اللحظات الاخيرة ، من أجل استكمال الشكل و التشكيل فقط . بل ان اختيار الوزراء أنفسهم – و خاصة بعد الثورة – يوحى بعدم استقرار الدولة على ما تريده من الثقافة ، فلقد أُسندت الوزارة إلى رجال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار و بعضا من التكنوقراط الذين ليس لديهم رؤية و لا يجيدون سوى تنفيذ الأوامر.
أن وزارة الثقافة و منذ نشأتها لم يكن لها استراتيجية ثابته ( و أكرر ثابتة ) حتى فى عصرها الذهبى ( عصر عبد الناصر )، فكما يقول دكتور ثروت عكاشة : ( تراوحت الدولة ما بين الاهتمام بالكم أو بالكيف ) . و صار وجود الدكتور عكاشة أو الدكتور عبد القادر حاتم على مقعد الوزير مؤشرا على الانحياز لأى إتجاه منهما . ثم فى عصر السادات تقلصت الفاعليات الثقافية و انشغلت الجماعة الثقافية بانشقاقاتها بين مؤيد و معارض لقرارات السادات و تسببت مرحلة الانفتاح فى انحدار فنى و تخلت مصر عن دورها الرائد فى الثقافة العربية، أما فى عصر مبارك – و بتولى فاروق حسنى – سجلت الوزارة حضورا قويا ، لكنها اهتمت بالبناء المعمارى أكثر من بناء الإنسان ، و اهتمت بالشكل الاحتفالى أكثر من المحتوى الثقافى .
ثم جاءت ثورة يناير ليصبح هدف مسئولى الوزارة جميعهم – بما فيهم الوزير – وأد أصوات الاعتراضات ، و تحييد الصراعات و صار النجاح يقاس بدرجة تجميد الأوضاع ، و تجنب نشر الشكاوى على وسائل التواصل مما أخضع بعضهم للابتزاز
أن كثير من مشروعات التطوير و التحديث على مستوى الوزارة لم يتم الالتزام بتنفيذها بمجرد رحيل المسئول الذى وضعها ، و لعل من المؤسف أن بعضها لم ير النور برغم الجهد الضخم الذى بذل فيها مثل ( المنظومة الثقافية للدولة المصرية ) التى وضعها الوزير الأسبق الدكتور جابر عصفور و معاونيه بمشاركة الوزارات المعنية ، كأول استراتيجية متكاملة للثقافة المصرية بعد ثورة 30 يونيو ، و اختفت بإزاحة الوزير عن منصبه.
إن التفكير تراوح بين الإبقاء على الوزارة أو ألغائها عدة مرات ، بل لعل السادة النواب لا يعلمون أن فى داخل الوزارة كيان كان من المفترض أن يحل محلها ، هو المجلس الأعلى للثقافة و لكن جرى تهميشه برغم تعظيم دوره و حجمه ، حتى تحول إلى ديناصور ضخم يقتات على التحدث فقط ( فدوره استشارى ) و حاول البعض تفعيل اللجان و إبداع نشاطات لها ، لكنها كانت مجهودات فردية . فما جدوى مكان يضع خططا لا تُنفذ و يتكلم فى تطوير العمل الثقافى و لكن لا يُسمع .
‘ن عشرات الندوات و المؤتمرات عقدت من أجل وضع استراتيجية أو تحسين الخدمات الثقافية أو حل المشاكل الإدارية ، و كان آخرها مؤتمر ثقافة مصر فى المواجهة ، و الذى كان أحد منجزات اعتصام الفنانين و المثقفين بوزارة الثقافة ، و شارك فى المؤتمر أكبر عدد من المثقفين من كافة الاتجاهات الفكرية و مختلف المناطق الجغرافية و انتهى بإصدار مجموعة من القرارات و التوصيات فى كافة مناحى العمل الثقافى مشفوعة بأوراق عمل و لكن – ككل مؤتمر و ندوة – لم ينفذ مخرجاتها أحد.
أن البعض يرى أن تمويل الخبز أهم من تمويل الثقافة – بما فيهم مسئولين بالوزارة – فى حين أن وضع الاثنين فى مقابلة للاختيار بينهما خاطئة ، فالثقافة ليست رفاهية يمكن الاستغناء عنها ، فلا جسد بلا روح و لا روح بلا جسد .
و بعد هذه الملاحظات المبدأية نأتى الى العوائق التى تمنع الوزارة من القيام بدورها ، و هى عوائق من خارج الوزارة و أخرى من داخلها ، علينا إزاحتها أولا لكى تكون هناك وزارة قوية و فاعلة نستطيع محاسبتها.
للحديث بقية ..