صناعة الضجيج في زمن العزل
بقلم : محمود حسونة
فرض الهجوم الكوروني على البشرية حالة من التأمل، في الكون وعجائب المخلوقات وقدرات كائنات غير مرئية على أن تفعل بالبشرية ما تعجز عنه كائنات ضخمة الحجم وغريبة الهيئة، كما فرض حالة من السكون تمثلت في إغلاق الدول شرايين الحركة فيها، وإغلاق البشر أفواههم عن الكلام، إلا وقت الضرورة ومن وراء كمامة، ولكن بيننا فئات انقلب الأمر لديها لتأتي أفعالاً وأقوالاً لا تتناسب بالمرة مع طبيعة الظرف الذي تعيشه الإنسانية، أفراد يصنعون الصخب في وقت الصمت ويثيرون الضجيج في ساعات التأمل.
لو بحثنا وراء صناع الصخب ومثيري الضجيج، لن نفاجأ بأنهم لا يعون ما يحدث حولهم ولا في دائرتهم الضيقة، وهم غالباً يعانون فراغاً، وقد يكون ذلك نتاج تعالٍ على المحيطين بهم أو عجز في الاندماج معهم، وهو ما يسعون لتعويضه بما يخلق صجيجاً ويثير غضباً ويشعل وسائل التواصل، ليجدون أنفسهم في قلب دائرة الضوء، حتى لو تحقق ذلك من خلال غضب وانتقاد وطعن فيهم، فالأهم أنهم ملأوا فراغاً وعالجوا نقصاً.
لعل بيننا نحن المصريين من يثيرون غضبنا و”يجرجرونا” إلى مواقع التواصل رغماً عنا لأجل الترند، وما أدراكم بالفيروس الاجتماعي المستجد المسمى الترند والذي لا يختلف عن فيروس كورونا المستجد!
خلال أيام قليلة مضت عشنا صخباً وضجيجاً غطى على الوباء الضارب ألماً ووجعاً في النفس البشرية، ولَم يكن من مصدر واحد بل من مصادر متعددة، حيث خرجت علينا ممثلة اعتادت تعمد إثارة الناس بملابسها التي تستر القليل وتكشف المثير، لتتحدث هذه المرة عن (المؤخرة) بعد أن اصطادتها فضائية غير مصرية ليجري معها من لا يليق به صفة المذيع، لأن أسئلته لا علاقة لها بالإعلام وأصوله، حواراً، فينتزع منها كلاماً يسيء إليها وإلى مهنة التمثيل التي يبدو أنها اتخذتها معبراً لشيء آخر. ومقابل الثمن الذي تقاضته عن هذا اللقاء، قالت كلاماً (رخيصاً) دون أي خجل، إذ يبدو أن كل شيء صار مطروحاً للبيع.
ندرك جميعنا أن هذه الممثلة ليست فاقدة للوعي، فكل ما تفعله يكون مقصوداً وعن سبق إصرار وخصوصاً أن الباحث في مشوارها الفني قد لا يجد لها بصمة، بل قد تكون عديمة الموهبة بين زميلات لها قدمن أدواراً وضعتهن في مكانة مميزة ونلن عليها التقدير والتصفيق والتكريم من النقاد والجمهور والمهرجانات.
على ذات النهج سارت مجموعة من سيدات المجتمع في نادي الجزيرة ارتضين التجمع حول تورتة عليها صورة خادشة للحياء وقطع حلوى على شكل أعضاء جنسية ذكورية وأنثوية، وهو الأمر الذي استفز قطاع عريض من الناس ليخرج قطاع آخر مدافعاً عن حق الخصوصية ومتهماً من قام بتسريب الصور بارتكاب الجرم المشهود.
مرتكبي الجرم عدة أطراف وليس طرف واحد، فالحفل قد يكون خاصاً إلا أنه أقيم في مكان عام، والتسريب قام به أو ساعد عليه إحدى الحاضرات، والهدف قد لا يكون سوى الانقسام الذي حدث بشأن هذه اللعبة السخيفة، حتى نظل أهل جعجعة بلا طحن، وضجيج بلا هدف، وصخب لا يسفر عن فائدة.
ما حدث في عيد الميلاد اعتداء على الخصوصية ونيل من صورة سيدات مجتمع، ولكنه أيضا اعتداء على قيم هذا المجتمع.
ولتكتمل حفلة الجعجعة، ومع بداية عقد مجلس النواب الجديد جلساته، قرر أحد النواب أن يختصر الطريق ويضع اسمه ورسمه في قلب دائرة الضوء أسرع من غيره، من خلال اتهامه للفنانين بالإفساد في الأرض، وكأن اتهام قطاع من الناس أو أصحاب مهنة بالكامل أمر هين، وهو يدرك جيداً أن اتهاماً من هذا النوع للفنانين تحديداً، سيكون له مفعول القنبلة المدوية اجتماعياً، خصوصاً أنهم أهل الصوت والصورة، والأضواء مسلطة عليهم طوال الوقت والجمهور حاضر لالتقاط أي إشارة منهم أو عليهم.
الغريب أن (سيادته) رفض الاعتذار في البداية ثم عاد وقال أن (ما قصدته هم صناع الفن المبتذل)، وأعتقد أنه كان قادراً على التحديد من البداية بدلاً من التعميم الذي وضع كل الفنانين في سلة واحدة من دون تفريق في الفن بين هادف ومبتذل.
يشاء القدر أن يكتمل هذا المشهد الكاريكاتوري، وفي نفس الأسبوع الذي خرج علينا سيادة النائب بهذه الكلمات التي تنال من الفن ومبدعيه، حيث شاهدنا تنصيب الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة الأمريكية، ولفتنا بشدة كيف أن للفن نصيب وافر من التقدير هناك، من خلال تقديم وصلات غنائية من الليدي جاجا وجينيفر لوبيز وغيرهما، نالت ثناء الحضور من بايدن ورؤساء أمريكا السابقين ورموز صناعة القرار في أكبر دولة بالعالم.
الفن هو اللغة التي عبرنا بها إلى العالم لنحكي عن مصرنا وحضارتنا، وقد ساهم بشكل كبير في خلق حالة من التميز لشعب مصر ولهجته عربياً وعبر التاريخ، سواء بالأغاني أو الأفلام والمسلسلات والمسرحيات..
في الفن فاسدون؟ طبعاً، وفي الإعلام أيضاً وفي كل مهنة على وجه الأرض تجد الصالح والطالح ولا يجوز المساواة بينهما.
صناع الضجيج لن تمنعهم جائحة من الإكثار من ضجيجهم، والباحثون عن الشهرة لن يقف في طريقهم وباء، بل لعله ساهم في زيادة انتشارهم، بسبب كثرة تعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي واعتمادنا عليها في زمن العزل.
mahmoudhassouna2020@gmail.com