فيروز(٣) .. الموسيقى السريانية (٢)
بقلم : فراس نعناع
يقول الباحث الدكتور بشار خليف: (لقد استطاع السريان عبر ترجماتهم للمؤلفات اليونانية، أن يمدوا المسلمين بعون معرفي كبير، سيكون له أبلغ التأثير في مساق الحضارة الإنسانية، ولعل من أهم الترجمات التي قاموا بها مؤلفات أرسطو، وشروح أفلوطين، ومؤلفات أبقراط وجالينوس الطبية، وكتب اقليدس الرياضية، وأعمال بطليموس الجغرافية).
أما على صعيد الموسيقى فلقد أخذ السريان بعض الألحان من اليونان وأضافوها إلى ألحان الكنيسة ، وبنفس الوقت أثروا بالموسيقى اليونانية عبر مزاوجة موسيقية ثقافية حقيقية، حيث القاع الثقافية للمشرق العربي والتي تضرب جذورها في عمق التاريخ، حيث كانت المدينة السريانية تؤثر في المدينة اليونانية، ولم يحس الناطقون باليونانية من المسيحين أنهم أكثر ثقافة من المسيحين الناطقين بالسريانية.. (حسب الباحث توينبي).
قدر (الفارابي) الألحان السريانية بـ 3000 لحناً ، هذا الرقم الكبير من الألحان، والذي انبثقت منها جميع الألحان في العالم ، جعلني سنة 2009 أن أقوم بتوثيق سلسلة مصورة لما تبقى من تلك الألحان ، وطرحت الفكرة على (الملفونو)، والتي تعني (المعلم) بالسريانية – (نوري إسكندر) فهو العارف والخبير وآخر ما تبقى من المعلمين بالموسيقى السريانية وله مؤلفين بهذا الخصوص.
إلا أن النوايا الطيبة فقط (لا تصنع فناً)، فهذا الجهد يحتاج إلى مؤسسات ثقافية محبة وكبيرة، وليس الى أحلام فردية، ولكنني أذكر أنه قال: هناك أكثر من ٣٧ ملحناً في تاريخ الموسيقا السريانية، فرجعت إلى الوثائق لأذكر بعضا من هؤلاء الملحنين وأولهم:
* برديصان الرهاوي -١٥٤-٢٢٢م.
– ولد برديصان في الرها – السورية (أورفة التركية) الآن ١٥٤م، ونشأ في قصر ملكها (معنو الثامن) وتنصر ووسم شماساً وبعدها قساً، ولقد كان برديصان (غُنوصياً) تذكر المصادر بأنه ألف أكثر من (١٥٠) نشيداً ولحناً، وعلمها لشبيبة (الرها)، ولم يتبق في المخزون الموسيقي السرياني منها سوى (خمسة أبيات) حسب كتاب (تاودريط) وبعض التراتيل التي تركها هو وابنه (هرمونيموس)، وتعتبر المدرسة الموسيقية الرهاوية هى المنبع لذلك الإرث الموسيقي الكبير.
* مارافرام النصيبي -٣٠٦-٣٧٣م
– ولد مارافرام في نصيبين – السورية (التركية) الآن، نظم الأناشيد المعروفة باسم (النصيبيية) نسبة لمدينته، سنة ٣٥٩ م رحل عن مدينته جراء استيلاء الفرس عليها، ومكث في (الرها)، وهناك وسع مدرسته وعلم فيها حتى نهاية حياته.
نسب إليه صياغة السلالم الموسيقية الثمانية، (أي المقامات ذات الثمانية ألحان)، والقصائد والترانيم والعتابات والأناشيد، وقيل بأنه جمع فناني زمانه الموسيقيين وأعطاهم رتبا ً كنائيسة وأكرمهم بسخاء، وبذلك استطاع أن يقدّم الألحان الثمانية بصورة منتظمة إلى الكنيسة ورتبها على مدار السنة، أي لكل عيد ولكل مناسبة دينية لحناً خاصاً.
يذكر – ابن العبري – في كتابه (الايثقتون) الباب الخامس – الفصل الرابع عن مارافرام بقوله:
“سنة انعقاد مجمع نيقية ٣٢٥ م – شرع مارافرام بتأليف الأناشيد الروحية والميامر للكنسية ضد أهل البدع في زمانه، ويؤكد على ذلك (أنطوان التكريتي)، حيث ذكر عنه ما دعا مارافرام لذلك هو مقاومة الجماعات المضادة للمعتقد القويم ، وقد تغلب مارافرام بأناشيده على ضلالهم.
أعطى مارافرام اهتمامه لمناهضة أشعار برديصان (الغُنوصية) ومعارضتها وإبعادها على عن الكنيسة بمضمون أرثوذكسي قوي، لكنه لم يمس ألحان برديصان الـ (١٥٠) بل تركها كما هي ، بل وزاد عليها الحاناً أخرى.
* رابولا القنسريني-٣٦٠-٤٣٥م.
ولد رابولا وثنياً في – قنسرين، من ضواحي حلب السورية، وكانت أمه مسيحية تعلم في مدرسة قنسرين الشهيرة وقتها، هجر زوجته ووزع أمواله على الفقراء، وتنسك في دير مارابراهيم، ثم وسم مطراناً على (الرها)٤١١م. حضر مجمع أقسس٤٣١م وجلب الكثيرين للمذهب الأرثوذكسي (القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح).
نسب إليه تأليف (التخشيفات)، وتعني التهاليل والتعاظيم الطويلة، وبلغ مالحنه من التهاليل الروحية حوالي(٧٠٠) نشيداً، (٣٠٠) منها تخشيفات، وأدخلها في كتب الأنغام (بيت كاز) – كنز الألحان أو بيت الألحان – وهنالك العديد من تلك التخشيفات والألحان محفوظة من القرن السادس الميلادي في كنيسة (ديار بكر) وموجودة بعض الألحان في كنيسة (دير الزعفران) وديرشرفة – في لبنان والعديد من الكنائس.
وذكر الأستاذ نوري إسكندر أن الموشحات الحلبية الطويلة تشبه إلى حد ما تلك (التخشيفات).
كما ذكر في لقاء تلفزيوني بأن لديه صديق (محمد قدري دلال)، وهو أستاذ وباحث موسيقي مختص بالموسيقى الدينية الإسلامية وبالموشحات والقدود الحلبية، فكان يذهب معه إلى الزوايا والتكايا والجوامع بحلب لسماع الأذكار والمدائح لمدة عشر سنوات، وبالتالي يذهب معه الأستاذ (قدري دلال) إلى الكنائس السريانية لسماع التراتيل والتخشيفات، وبعد تلك الاستماعات الطويلة ورصدها تبين لهما بأن بعض الألحان السريانية قد أثرت إلى حد كبير بالموسيقى العربية والابتهالات الدينية الإسلامية.
فذهبت بسؤال الى الأستاذ (محمد قدري دلال) قبل يومين، وخاصة وأن له مؤلفات عديدة بالموسيقى العربية وخاصة (المقامات الدينية) الإسلامية ومختص بالقد الحلبي والموشحات ، عن ذلك فأجاب مشكوراً:
“بالنسبة للشق الأول: نعم كنا نذهب سوياً لحلقات الذكر، ونحضر الطقوس الكنسية السريانية.
الشق الثاني: نعم بعض القدود وجدنا فيها آثراً سريانياً حسب المتداول، لكن هذا لا ينسحب على الموشحات التي سمعتها وحفظتها ودونتها في زاويا الطرق المختلفة، إذ هى ألحان تصل إلى حد الإعجاز، وهى ذات ايقاعات معقدة جداً، الألحان الكنيسة السريانية جملها بسيطة ، وإيقاعها أيضاً، وتدخل تحت (الغناء الشعبي الديني) – كما القدود الحلبية.