“العزيمة” .. انتصار للتعليم على الجهل
بقلم : سامي فريد
الحارة هنا غير حارة نجيب محفوظ التي عرفناها في ثلاثيته، بل سبقتها أيضا وقدمها في السينما سينائي رائع اسمه (كمال سليم) وحشد لها من أبطالها (فاطمة رشدي وماري منيب وحسين صدقي وزكي رستم وعباس فارس وأنور وجدي ومختار عثمان وعبدالسلام النابلسي وحسن كامل) .. ثم شرير الحارة أو من يعتقد أنه سيدها بثروته وجاهه (عبدالعزيز خليل) أو (المعلم العتر).
كل هؤلاء النجوم هم كل الحارة أو رؤوسها.. وكلهم تجمعهم الطيبة والأصالة وحب الآخر والتعاون إلا (المعلم العتر) الذي يضع عينه على فاطمة (فاطمة رشدي) التي تحب سي محمد (حسين صدقي) الذي اختارته لأنه الأفندي موظف الحكومة الذي سيرفع رأسها أمام كل جاراتها في الحارة.
لكن.. ولأنه دائما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن لا يجد سي محمد أي عمل في الحكومة ليصبح ذلك الأفندي الذي تحلم به فاطمة فيرضى بالعمل عاملا في محل ملابس كل دوره هو أن يضع مشتروات الزبائن في الأكياس ولا يلبس بذلة الأفندية لكنه يلبس يونيفور العمال حتى تراه واحدة من الجارات فتبدأ الأمور تتعقد وتتفق الجارات على كشف فاطنة التي قد أوجعت رءوسهم بمحمد أفندي !.
ومن خلال حيلة دبرنها يذهبن بها إلى المحل الذي يعمل به محمد أفندي بجحة أنها هي التي تفهم في أنواع القماش والأذواق والألوان حتى تصدم فاطمة بمحمد أمامها في زي العمال.. وينهار الحلم!
لكن المحال هنا ينفتح واسعا أمام (المعلم العتر) الذي صاحب المال والنفوذ والجهل.. وبمعاونة من الست أم فاطمة، ثم تتطور الأحداث عندما لم يستطع الريس حنفي والد محمد أفندي أن يسدد أقساطاً قد تأخرت عليه فتوقع الحكومة الحجز على المحل.. ليدور (المعلم العتر) في كل الحارة وهي هنا “درب معتوق” وهو ما قصده كاتب السيناريو والمخرج كمال سليم بأن يكون درب “معتوق” ليكون كل سكان الحارة معتقوين من الفقر وقيود الفقر.
ويسخر المعلم العتر من التعليم عندما يقول إنه ولأنه كان الولد “الحيلة” أو الوحيد لأسرته لم يتعلم لأن التعليم في رأيه “فنظزيه” لا لزوم لها وأنه يفكر في أن يعمل عنده كاتب مثل محمد أفندي ابن الحلاق!، حتى أصدقاء محمد حنفي (حسين رياض) يستنكرون أن يحصل أولاد الأوباش على درجات جامعية رغم رخص تكاليف الجامعة وهي الجامعة الوحيدة في ذلك الوقت، لكن الأسر الفقيرة لا تستطيع تقديم مثل هذا المبلغ.
سيلتفت في نظرنا في الفيلم الحوار السخر لبديع خيري الذي يجري على لسان كل شخصية حوارا يليق بعملها.. مثل جملة الحوار التي قالها المعلم العتر ليسخر بها من الحانوتي (مختار عثمان) عندما يناديه بمندوب عزرائيل ويرد عليه مختار عثمان قائلا “أهلا يا زبون المستقبل”.
والغريب أن طلعت باشا حرب صاحب ستوديو مصر يأمر بوقف تصوير الفيلم بجحة أن الحارة لا تضم إلا شخصيات لا تليق بالمجتمع المصري مثل الحانوتي والحلاق والجزار.. لكن بديع خيري لا يسكت وفي مقابلة مع طلعت باشا حرب يقول له أنهم لا يستطيعون في مصر أن يقدموا أفلاما تجارية مثل الافلام الأمريكية، ولكنهم يستطيعون أن يقدموا أفلاما لا تستطيع السينما الأمريكية أن تقدمها!، ويقتنع طلعب حرب فيأمر باستمرار تصوير الفيلم.
وأغرب من هذا هو أن بديع خيري كان قد رفض في البداية التعاون مع كمال سليم في الفيلم بحجة شدة مشغولية مع نجيب الريحاني لكنه يفاجأ بكمال سليم يدق الباب عليه ليلا ليسأله لماذا لا يريد أن يتعاون معه؟
ما سمعه عنه من عصبيته وأنه ليس اجتماعيا ولا ودودا ولا يعرف غير عمله، وأنه لا يجامل أحدا.. ويذعن بديع خيري ليبدأ العمل الساحر مع كمال سليم.
وفي الفيلم حلول كثيرة وضعها العبقري كمال سليم مثل الأغنية التي سمعها حسين صدقي وفاطمة رشدي على السطوح من جارهما الموسيقي لتشكل الموسيقي التصويرية في الفيلم وبالمناسبة فإن كلمات الأغنية كانت من وضع صالح جودت وتلحين رياض السنباطي.
وتسأل فاطمة رشدي السعيدة بخبر نجاح محمد حنفي حبيبها. تسأل حبيبها إن كان قد وجد عملا في الحكومة فيرد قائلا إنه يتكلم عن مشروعه الجديد مع صديقه وزميل دراسته أنور وجدي بتشجيع من والده الباشا الذي يحبذ فكرة العمل الخاص بعيدا عن مرتبات الحكومة المتدنية..
وستندهش إذا علمت أن مساعدي الإخراج في ذلك الفيلم كانا صلاح أبو سيف.. ومحمد عبدالجواد، وكان المدهش حقا هو ديكور الفيلم السهل والمتميز ليسهل حركة الممثلين وكان الديكور لولي الدين سامح..
وينحج كمال سليم في أن يحشد كل هؤلاء النجوم في أسرع وقت ليقدم المشهد كامل أمام جمهوره.. ثم يقول انور وجدي بمحاولة الإصلاح ما فسد في علاقة فاطمة ومحمد ليذهب إلى الحارة ليعيدها غلى عصمته فيفاجأ بأن الليلة هي ليلة زفافها إلى المعلم العتر، لكنه وبسرعة يبحث عن ورقة طلاقتها ليقدمها للمأذون (السيد بدير) وفيها يتضح أنه قد بقي ناقصا على تمام العدة يوم واحد فيوقف المأذون العقد وتدور المعركة التي يتنصر فيها أبناء الحارة على المعلم العتر ورجاله.
كان بعض المشاهد كوميديا ارتجت لها الصالة لبطولة البطل (مختار حسين) صديق البطل وموقف (حسن كامل) والد فاطمة حتى يتنهي الفيلم بانتصار الحارة وتتم النهاية السعيدة.
أما الفيلم فهو من إنتاج عام 1939 بكل هذه العبقرية للمخرج وبمساعدة صلاح أبو سيف ومحمد عبدالجواد وبديع خيري لنرى الحارة المصرية تنتصر مرتين.. الأولى بالانتصار على الجهل وتزكية التعليم كحل لمشاكل المستقبل، والثاني هو اجتناب العمل في الحكومة وتشجيع العمل الأهلي ليكون هو الحل الأكثر مناسبة لمشاكل البلد في ذلك الوقت.