كشف المستور تحت جلباب عبد الغفور
بقلم : محمد شمروخ
حتى هذه اللحظة لم يصادف أنه مر تحت عينى عند ترددي على المكتبات وأرصفة الكتب القديمة، عنوان رواية إحسان عبد القدوس (لن أعيش في جلباب أبي) ذلك مع حرصى النهم على قراءة رواياته، ولكن حتى العثور على نسخة منها – وأظن أنه يسير جدا – لا أستطيع أن أحكم على رؤية المؤلف في روايته تلك، من خلال المسلسل الذي لا تمل القنوات التلفزيونية سواء الأرضية أو الفضائية، من تكرار عرضه كما أنى لا أمل أنا أيضا عن متابعته.
لكنى مع ذلك أمارس تجاه الأعمال الفنية عادة قد يراها البعض مجحفة وخارج نطاق النقد الفني لأنى أفترض أن الأحداث حقيقية على أرض الواقع ومن ثم أحكم عليها حكما اجتماعيا وليس فنيا لأن العمل الفنى من وجهة نظرى التى يمكن أن تكون ساذجة أو حتى خاطئة، هو في النهاية على صلة ما بالواقع وأميل إلى أسلوب الجمهور العادي مثل خالتى وعمتك وربما على منوال ستى وجدتك، بالتفاعل مع الأحداث وكأنها حقيقة فأرضى وأسخط وألعن وأشيد، ولكن كلما أشاهد (عبد الغفور البرعي) في مرحلته الناجحة أتساءل بإلحاح كيف يمكن أن يتقبل المجتمع نموذج الثرى ثراءً فاحشا وإن كان شريفا وليس به شبهة كثراء البرعي وهو نموذج منتشر جدا في المستويات الغنية التى تتصدر الطبقة العليا في المجتمع، خاصة في مجالي المقاولات والخردة.
ومع انتشار هذا النموذج، إلا أن قبوله بالتعاطف وعدم التشكيك في ثرائه مع تجاهل معايرته ببدايته المتواضعة، لهو ضرب من الخيال في مجتمعنا المصري، بل وبكل وضوح، نمارس حيال عبد الغفور كل أنواع التعالي الاجتماعي ولا نكف عن انتقاد أمثاله حتى مع التسليم بطهارة يده وعصاميته وهو من النادر جدا في نظرنا، فلعنة بداياته المتواضعة ستظل ملازمة لأى حديث عنه ولو كان من المقربين منه والمستفيدين الذين يظهرون كل علامات الانبهار بتجربته أمامه ولكن من خلف ظهره، نردد ما قال وما لم يقل مالك في الخمر.
لكنا نمارس نوعا من التناقض ما بين الدراما والواقع فما نقبله ونشجعه دراميا نرفضه ونشجبه اجتماعيا، ليس في هذا المسلسل فقط بل في كثير من الأعمال، فنحن مجتمع مازال فينا من يتشاتم مع خصمه بوصفه بالبواب والزبال والشيال والفلاح والسباك ويرى فيها مهنا منحطة ظلما وعدوانا واستكبارا في الأرض بأوهام تميزنا الاجتماعى كطبقة أفندية ممتازة، كما ونرى في الصعود المالى والاجتماعي لمثل هؤلاء، دليلا على الخلل الاجتماعى والأخلاقي وتهطل من عيوننا الدموع تباكيا من شدة انحراف الميزان الأرضي وظلم الحياة الذي يرفع الخسيس ويهوى بالأصيل.
ومعاناة مثل عبد الغفور ومن حوله من تاريخ نجاحه تتذبذب بين اعتزازه بمجهوده الذي نراه “فخرا ممقوتا وعنظزة ونقصا في الشخصية” وبين تجاهله والذي ننظر إليه على أنه نسيان أصل وجحود نعمة وتنكر للبدايات”، لكن طوال المسلسل لم نلحظ هذا ولا ذاك إلا قليلا جدا ويمر مرور الكرام مع أنه لا يمكن إنكاره حتى مع تكثيف التركيز على الأحداث الدرامية العادية لحياة عبد الغور وعائلته
وإن كان هناك ثمة حقيقة كعبد الغفور وفاطمة وأولادهما لا يتنكرون لأصولهم بل ويعتزون بها فظل عبد الغفور معتزا بأصالة منقطعة النظير بمرحلة خدمة الحاج سردينة الكبير، وكذلك تذكر فاطمة بناتها عن أنهن بنات بتاعة الكشري، فهذه النماذج العظيمة الثرية الشريفة موجودة بقوة في المجتمع، ولكن أبدا لا يتركهم أحد ويظل تاريخهم المهنى يطاردهم طوال حياتهم وينتقل منهم إرثا ثقيلا لأبنائهم وأحفادهم
لقد قدم المسلسل شخصيات هادئة سوية حتى ولو بدت فيها ملامح شر فيها، ولكنه شر مكشوف هين كما حدث في شخصية ابن الوزير زوج إحدى بنات المعلم عبد الغفور أو الأمريكية التى تزوجت عبد الوهاب طمعا في ثروة “مستر هاج أبدلجفور” أو محفوظ سردينة فى أول عهده مع الواد عبد الغفور.
لكن رد الفعل الطبيعى والواقعى والرفض الاجتماعى وعدم الاعتراف بحق عبد الغفور في التساوى مع النخبة وربما من هم أقل من النخبة، لم نكد نلحظ له أثرا إلا في تعليقات زوجة الوزيرفقط.
حتى الفتى المعقد من جلباب أبيه بكل ثقل ظله ودمه لم يظهر عنده أدنى معاناة مع هذه الناحية لا سلبا ولا إيجابا وكان كل صراعه النفسي الظاهر والباطن هو كيف يمكن أن يصل للنجاح ويكون غير معتمد على ثروة أبيه ولم يكن الجلباب بالنسبة له عارا قديما، بل كان فقط يريد أن يثبت نفسه من خلال قميصه وبنطلونه.
ولأنى كان لابد لى أن أقرأ الرواية المكتوبة قبل هذا المقال لأتأكد من مناقشه هذا الجانب الذي أتلمس فيه أنه بؤرة الصراع الحقيقية في نفس عبد الوهاب من خلال العنوان العبقرى الذي اختاره إحسان للرواية، وهو من جملة عناوين لعبد القدوس تجعلك محتارا في كيفية جرأته وإقدامه على اختيارها لكثير من رواياته.
لكن هنا كما أسلفت، أتحدث عن مسلسل مازال قادرا على شل حركة أصابعك على ريموت كنترولك وأن تبحث عن جديد بين مئات القنوات فتتوقف غالبا عند القديم بعد أن فقد الجديد جاذبيته.
لكن لم تفسد رؤيتى هذه استمتاعى في كل مرة بمشاهدة المسلسل مرات ومرات، لكنه جعلنى أصر على أسئلتى المنغصة: ماذا لو كان عبد الغفور هذا بشحمه ولحمه يعيش بيننا، وكيف سنرى أسلوبه بإصراره على جلبابه واعتزازه ببدايته وعدم تخليه عن أصله، فهل تعلم يا سيدي أنه حتى الآن هناك أماكن ممنوع دخولها بالجلباب؟!. نوادى.. فنادق.. قاعات أفراح.. مؤسسات عامة وخاصة.
دائما سنرى في جلباب عبد الغفور أنه علامة على أن الواطي واطي وجرب بنفسك وانزل الشارع القاهرى بجلباب وانظر ماذا سترى، فالجلباب هو المقاول والبواب والفلاح وبتاع الفجل وكلهم شخصيات لا نقبلها ولو على مضض لو تسللت لأعلى الدرج الاجتماعي، مع أنهم يا أخى أهلنا وأصولنا ولو كنت من فئة الأفنديات أبا وجدا، فاعلم أن جد جدك كان مجلببا مثل بقية خلق الله، فمصر حتى العهد الخديوي إسماعيل تقريبا، لم يكد يخرج منهم أفندى واحد حتى المستوظفين المصريين الذين تسللوا لمواقع الإدارة، كانوا يرتدون الزي الأزهرى أو الشبيه به ومن ارتدى منهم البدلة بعد ذلك كان يتخلص من عنائها بمجرد دخول بيته.
ومع ذلك فما زالت تلك النظرة الناقصة نحو الجلباب هي المسيطرة، فقد نتقبل عبد الغفور كقصة كفاح، ولكن مع كثير من التحفظات والشعور بالاستعلاء الكاذب تجاهه ورؤية أنفسنا أولى منه بما جناه.
الوضع نفسه وبالمللي مع فاطمة وسنظل نتغامز حول أولاد كل عبد الغفور حتى لو ارتدى البدلة وتخلى عن جلبابه وسنعدل موقفنا منه ببساطة لأنه راجل واطي تنكر لأصوله.
تلك النظرة لم يشأ المخرج أوالسناريست على الأقل، أن يصدمنا بها مع أهميتها وواقعيتها التى كانت يمكن أنت تحول مجرى الأحداث، ولذلك اكتفوا في المسلسل بالعقد الدرامية دون تضبيب أجواء المسلسل باعقد النفسية وربما كان هذا خيرا لأننا مش ناقصين عقد في المجتمع وفي المسلسل كمان.