موليير الذي أَضحَك الشَّعب والملك
بقلم : فراس نعناع
أحضَر صديقي المسرحيّ والأستاذ الجليل شاباً معه، وقالَ لي : تلميذي سيرافقنا هذه الفترة.
قلت : أهلاً وسهلاً مادام تلميذك أكيد شاطر.
بدأ صديقي وتلميذُه يتكلمُون عن عملٍ كانُوا قدْ انجزوه، لم اشاركهم بالحديث لأنني لا أعرفُ عن ذلكَ المشروعِ شيئاً كُنت مُراقباً ومستمعاً لهُمْ، وبعد فترة مَللت وغادرت.
في اليومِ الثاني، اِقترب منّي ذلك الشابُّ مصافحاً، فتأملته جيداً شابٌّ نحيف بجسد ووجه طفل ، لديه شنب ولحية مُتناثرة ، أحسست بأنه خارجٌ من عالم “موليير”.
أتَى صديقي اِستقبله تلميذُه بفرح الطفل، وبدأنا نتحدَّث بقضايَا المسرح وقضايَا عامَّة.
صديقي الأُستاذ يتحدَّث وتلميذُه يقُول له : مظبوط أستاذ
عندما أتحدّث، كان ذلكَ الشابُّ يصمت.
بعد أسبوع وعلى هذا المنوال، صديقي الأستاذ يتحدث، وتلميذُه يقُول مظبوط والله مظبوط، لم أسمعْ منهُ سوَى تلكَ الكلمات.
وجهت كلامي ذات مرة لصديقي بقضيَّة ما، قاصداً إعطاء معلومات وتواريخ خاطئة، فهز صديقي رأسه وقال لي: لديك قدرة هائلة على حفظ المعلومات والتواريخ.
فما كان من ذلك التلميذ إلا القولُ : مظبوط والله مظبوط.
هُنا انتفضت وقُلت لهُ: “شو هو المظبوط صرلي أسبوع متحملك ما سمعت منك غير مظبوط والله مظبوط ، يبدو يا صديقي انت جايب معك واحد بصمجي”، التلميذ هذا تخرج من الأكاديمية والمفروض شكل هويةً خاصة به ، بعد أن تتلمذ على يديك، تعرفني لا أحبُّ الوَعظ ولا الواعظين. ولكن ما قُلته أنا كانَ خطأً وكُنت أرغب في امتحانِ تلميذك الشاب، وهي غير عادتي، أنت تعرفني إن كنت غيرَ مُتأكدٍ من معلومة، أقول لا أعرف، لكن تلميذك طرطوف أصرَّ على مظبوطية كلامي.
وبت أناديه “طرطوف” يبدو بأن بعضاً من الأساتذة لا يبحثُون عن مريدين لعلومهم فقط ، بل على بصمجية.
أتاني مرَّةً هذا الشابُّ وسألني شو يعني “طرطوف” فضحكت وقُلت لهُ : هل تعرف موليير؟!
أجاب : طبعا
قلت : هل قرأتَ شيئاً من مسرحياته أو درسته في الأكاديمية ؟
أجاب : بصراحة لا ما كان مُقرر علينا.
ذات ليلة، وفي لحظةِ صفاء أتاني تلميذ صديقي الأكاديمي، وقال لي: “أستاذ انتو جيلكن غير جيلنا .. بعدين أنا قسم تمثيل”
أجبته: العقل واحد، والفن والمعرفة لا تتجزأ.
طيب ممكن أطلب منك تحكيلي عن موليير.
أتذكر تِلك السُّطور التي قُلتها له :
فقد النطق وبدأ ينزف دماً من فمه، أرسلوا بطلب حكيماً ورجل دين. لم يلبي أحداً، فمات.
كان ذلك سنة ١٦٧٣م عندما كان يقدم آخر مسرحياته “مريض بالوهم”، حيث أصيب بالسل الرئوي، وبات السعال مصاحباً له، مما جعله يستغله عبر أدائه التمثيلي، رغم مرضه وتعبه. إلا أنه بقي مديراً لفرقته، يكتب لها المسرحيات ويقوم بدور البطولة، علاوة على ذلك لازمته مجموعة من المشاكل في البيت، ومع الكنيسة، مما زاد الطين بله عليه، حيث نصحه صديقه “بوالو” بترك التمثيل والتفرغ للكتابة، لكنه رفض وأصر على أن يبقى مديراً للفرقة وممثلاً وكاتباً.
مات وعُمره ٥١ سنة في باريس – العاصمة الفرنسية، ولكن الكنيسة رفضت دفنه حسبَ طقوسها، والتي اتهمته بالكفر، إلَّا أن تدخلَ الملك لويس “ملك فرنسا” وطلبَ من كبير الأساقفة التدخُّل، حيثُ وافقَ بدفنه شريطة أن يتم دفنه ليلاً وبدُون طقوس كنسية، ولكنْ في مقابر “سانت جوزيف” المخصَّصة لدفن الشواذّ والكفرة وأولاد الزنى. ذلك التدخُّل من الملكِ كان بطلبٍ من زوجة موليير “أرماندا” والتي عرفهَا وهى طفلة، وكان يعلمُها النُّطق والكتابة ويدلعها بـ “مينا” وهى تسميه “زوجي” . تزوجهَا موليير وعُمره أربعين عاماً وهى كانت في العشرين من عمرها، وتُشير الوثائق أن “أرماندا” هي بنتُ زميلته الممثلة “مادلينا بيجار”، والتي أسَّس معها ومع عائلتها فرقة “المسرح الباهر” والتي لم تكن بدايتُها باهرة في باريس وذلك سنة ١٦٤٣ميلادي ، والتي أستأجرت مسرحاً تلوَ الآخر وعرضت عليها أعمالها المسرحية ، لكنها باءت بفشل إثر فشل . إذا كان من الصعب على تلك الفرقة الناشئَة مُنافسة الفرق الكبيرة والمشهورة، وعزوف الجمهور عن عُروضهم، إلى أن تراكمت الديُون على “موليير” كونه مديراً للفرقة رغم صغرِ سنه، ونتيجة ذلك كان قد سُجن مرتينِ على الأقلّ .
مما جعله وفرقته مضطراً لترك باريس و هجر مسارحها، والذهاب الى المدن والأرياف، في جولة استغرقت ثلاثة عشر سنة ، كان تعداد الفرقة ٢٥ ممثلاً وممثلة، وكانت هذه الفرق الجَّوالة مُطالبة دائماً بتصاريح، عادة ما كانت سلطة أُمراء المناطق والدوقات تَرفُض إعطائها، وكانت تحدُّد ثمن التذاكر لهم، وألا تكونُ مرتفعةً على سكانِ تلك المناطق، المنافسات كانتْ كبيرةً وتصل لحدّ الشجَار بين تلك الفرق.
أثناء إحدى جولات موليير تلك، التقى بـ “شارل دوفريسن” الذي كانَ خبيراً بالمسرح ولديه فرقةٌ معروفةٌ ، وكانت تتمتع بحماية وحصانة الدُّوق “دي إبيرنون” والتي كان موليير بحاجة تلك الحصانة، بعد مشاورات عديدة ، تم دمج الفرقتين بفرقة واحدة شغل موليير رئاسة فرعية للفرقة ، بينما دوفريسن رئيساً إدارياً للفرقة. مثلت الفُرقة التراجيديا والكوميديا ومسرحيات لـ “كورنيل “والكوميديا كانت تعجّ بألفاظ فظة تعجب جُمهور تلك المناطق ، والتي لم يُعجبهَا “الشكل التراجيدي” مما اضطر موليير لإلغاء “التراجيديا” التي لا تناسبُ الجمهور، وبقي على تقديمِ المسرحيات الصغيرة الكوميدية، والتي تُعتبر النقلة النوعية في تاريخِ الفرقة وتاريخ مسرح موليير الذي سيغدو فيما بعد “مؤسس الكوميديا الراقية” .
جال موليير في مُعظمِ المدن والأرياف الفرنسية مثل (نانت، وتولوز، وليون، ومونبيليه)، والعديد من المدن مما أكسبته تلك الجولات خبرة ومعرفة كمدير ، وكيفية التعامل مع المؤلفين والممثلين ، ومزاج الجمهور، وقبول سلطة الأُمراء لهم ، ومما لا شكَّ فيه بأنَّ موليير كان يأخذُ شخصياته ونماذجها من مُراقبةِ الناس في تلك المناطق ، وقيل بأنه كان يجلسُ عند “حلاق” في بيزيه اسمه” جيلي” لساعات طويلة يرقُب وجُوه الزبائن ويسمع قصصهم .
مع مرور الزمنِ تطوَّر أداء الفرقة وباتت تملك الخبرة والثقة بما تقدم حيثُ قدمت “المغفل ” ١٦٥٥ وشجار حب” ١٦٥٦
ولحسن حظ فرقة موليير أن حضر الكاتب “كورني” سنة ١٦٥٨ أحد عُروضهَا وأبدى إعجابه بما يقدمُون وبأداء الممثلة “دو بارك” التي كتبَ بعدها من وحي إعجابه بها “ماركيزة المحطة” والتي كانت بمثابة الحصان الرابح للفرقة وذاع صيت الفرقة ، ووصلت شُهرتُهم للدوق “فيليب” شقيق الملك “لويس” الذي أرسلَ لهم دعوة لتقديم عُروضهم في “باريس” سنة ١٦٥٨
لبت الدعوة وأتت كفرقة محترفة وممثلين ليسُوا بهواة، قدمُوا مسرحيَّة تراجيدية في قاعة الحرس وبحضُور ملك فرنسا “لويس الرَّابع عشر”. وبعد انتهاء العرض شكر موليير الملك على حُضوره، وطلبَ منه أن يقدمَ عرضاً مسلياً. فوافق الملك، وكانت “مسرحية الطبيب العاشق ” ونالت إعجاب الملك والحضور. تلك الدعوةُ أسّست لمكانة مرمُوقة بتاريخ مسرح موليير في باريس، حيث انضم للفرقة الممثل الشهير “لاجرنج” لهم والذي كتب مذكرات يومية عن الفرقة، والتي وصل لنا الكثير من تلك المذكرات. والتي لولاها لما عرف المؤرخين شيئاً عن تاريخ الفرقة وتطورهَا في باريس،حيثُ كانت أولَ مسرحيَّة لموليير في العاصمةِ “المتحذلقات السخيفات” والذي سخر فيها من النساء الأرستقراطيات . في مسرح “بيتي- بوربون” وكان ملحقاً بمتحف “اللوفر”. وفي عام ١٦٦٠ قرر السيد “دي راتابون” بهدم المسرح بحُجَّة توسيع قاعات اللوفر وهو المشرف على المباني الملكية. وقيل بأن السيدة “رامبويليه” كانت وراء القصَّة، كي تطرد موليير وفرقته من باريس.
في تلك الحالة المحبطة والصعبة لموليير، جعلته يتصل بالأمير “فيليب” كي يجد له حلاً فأصدر الملك لويس أمراً بنقل فرقة موليير لمسرح “باليه رويال”.
فشلت فرقة موليير مرةً أخرى بعد عرض مسرحية “دون جارسيا” على مسرح باليه رويال، وقدمت عروضاً قديمة. صاحبهَا الملل والإحباط من الفشل.
إلَّا أنْ موليير لم يحبط وكتب مسرحية “مدرسة الأزواج” سنة ١٦٦١م، والتي لاقت نجاحاً واستحساناً لدى الجمهور، وفي هذه المسرحية ظهرت فيها الطفلة الصغيرة “الممثلة مينا” والتي هي فيما بعد ستكُون زَوجَة موليير “أرماندا بيجار” بعد نجاح الفرقة بعرض مدرسة الأزواج ،والتي ألغى ذلك النجاح فشلهم الذي أصابهم بعد مسرحيَّة “دون جارسيا”. وبعدَ ذلكَ النجاحَ قدم موليير لجمهوره مسرحية “مدرسة الزوجات “وهي مسرحية كوميدية خالصة، عام ١٦٦٢ ولكن هذه المسرحية سببت للفرقة أزمةٌ كبيرة بسبب موضُوعهَا الجريء وقتها. والتي تهكمت على تقاليد اجتماعية كانت سائدة في المجتمع الفرنسيّ. في المسرحية دافع موليير عن النساء وحقهم في اختيار أزواجهم . ولكن النقاد اعتبروا أن المسرحية من أفضل مسرحيات موليير ، وهي تنتمي لفئة “الكوميديا الرفيعة”.
ها هو موليير يعودُ إلى قصر الملك وبجعبته الكثير من التجارب والمعارف والمسرحيات التي سيكتبها لاحقاً . بعد أن رفض صنعة أبيه في القصر الذي كان يمُدُّه بالأثاث. ها هو “جون بابتيست بوكلان” المولود سنة ١٦٢٢ميلادي” الذي غيّرَ اسمهِ لـ “موليير” والذي قيلَ عن ذلك التغيير كي لا يحرج والده الذي يعتبرُ أن التمثيل محرجاً للعائلة.
موليير يُعد أحد أهم أساتذة الكوميديا في تاريخ الفن المسرحيّ ، ومؤسس الكوميديا الراقية. مثل قرابة ٩٥ مسرحية، لديه ٣١ مسرحية من تأليفه ومنها: طرطوف، البخيل، عدو الشعب، طبيب رغم انفه، مريض بالوهم.
غضبت الكنيسة منه وطالبت بحرقه، بسبب مسرحية (طرطوف) ، والتي تناول فيها مسألة النفاق الديني، والتستر والتظاهر بالتقوى والفضيلة، كان يرغب موليير في مسرحيته إبعاد رجال الدين عن التدخُّل في أحوالِ الناس ،وأن يبقى إيمانهم داخل الكنيسة وأن التقوى والفضيلة لا تحتاج للتظاهر والتفاخر، وأن يبتعدوا عن التشدّد والتعصّب.
مات موليير وهو في قمة نجاحه وعطاءه، بعد أن أضحك الشعب والملك ، ودُفن في مقابرِ المنبوذين رغماً عنه . والتي لم تشفعَ لهُ الكنيسة رغم تدخل الملك بدفن يليقُ به سنة ١٦٧٣م. نُقل رُفات موليير سنة ١٨١٧م لمقابر “بير لاشيس” ومازالَ طرطوف مستمراً بنفاقه بكل أشكاله الحياتية ليومنا هذا. أتمنى أن يكون ما كتبته عن موليير فيه شيئاً من “المظبوط”، ولكن ليس على طريقة تلميذ صديقي البصمجي، كما أتمنى إعادة ترجمة أعمال موليير بصيغ جديدة ، وإنتاج أعماله على خشبات مسارحنا العربية.
موضوع مهم هو حال الثقافه في بعض الجامعات التلقين والتكرار كالببغاء كما ذمر الاستاذ فراس نعناع واود ان اشكره على الاحاطه بحياة الفنان المسرحي موليير